حين ينتشر الحب كالريح

ت + ت - الحجم الطبيعي

لدى الروائي «جنكيز أوتوماتوف» القرغيزستاني مؤلفات كثيرة، غير أن رواية «جميلة» أثبتت إبداعه كمؤلف، من خلال الفتاة القروية التي انفصلت عن زوجها الجندي بسبب الحرب، لتقع في حب جندي آخر رغم عاهته الجسدية، ومهما كان، فقد انتشرت هذه القصة ومنذ ستينيات القرن الفائت وعبر لغات العالم المترجمة لها، لتنتقل من تلك المروج والجبال والبراري إلى أشهر مدن الدنيا،.

ومن خلال صور لمشاهد قليلة من حدود هذه البسيطة المصطبغة بخصوصية عالية في معطاها الأدبي، وفي أرض جبلية نائية ومرتفعة وموصوفة في كيف تأتي الرياح عليها من سماء خريفية أو رمادية لتجرف الغيوم بسرعة هائلة، وكيف تظهر تلك الطرقات السود وهي على الحافة، وعن الأشجار بأذرع مكسورة تتداخل فيما بينها.

قلائل من تمعنوا في الحب، وقلائل هم أيضاً من تأملوا الطبيعة، ليصنع ابن المكان «أوتوماتوف» في تلك الحياة البرية البدائية، وبحب طفولي، قصة شغف تخترق المكان والزمان، مستخدماً كافة الأدوات الإنسانية الفريدة، لتصبح حكاية «جميلة» أشبه بأسطورة تملأ السمع والعين والخيال، وتتشعب حروفها من البسيطة إلى الآفاق، وما الآفاق سوى الهواء، والهواء كالحب الذي نتنفسه، وتبدو الحياة ممكنة.

«جميلة» من الروايات المغولية العطرة والنادرة التي طارت صفحاتها عالياً لتؤرج الهواء وتفوح على ضفاف من الآهات، حيث المياه العذبة والمالحة، وإلا من أوصل البحار بالأنهار سوى الحكايات؟.

رواية أبهرت أدباء العالم فكانت حبل نجاة لثقافة المكان وأرض المغول والمغوليين بمعتقداتهم وتاريخهم، بعد أن تعرفنا من خلال هذا الأدب العاطفي الراقي إلى أديبهم المغولي أو التتري، ونحن العرب لم نقرأ عن التتار في كتب التاريخ سوى عن عنفهم وكرههم وهجومهم علينا، وها هو التتري الجديد يأتي لينشر قصة عشق لا بُغض، حب لا أنانية، غرام لا مقت، خاصة أننا نقرأ اسم الأديب جنكيز على اسم الدموي جنكيز خان، لكن شتان.

وما يستوجب قوله مني بأنه ليس لأنه أديبٌ ومثقف فقط، وليس من خلال دراسته واهتمامه وقراءته، بل لأنه عاش حياته بتنوع، يمارس عدة مهن ويتعلم الكثير منها بعد أن اختال في الطبيعة الصعبة والحلوة، من سهوب وبراري وحياة بدوية وثرية مع عائلته، وبعد أن عاش الألم بإعدام والده البرجوازي وهو في الرابعة عشرة من عمره، وتغير مساره ليعمل محصلاً للضرائب، وحمّالاً للبضائع.

ومساعداً لكهربائي، ومساعداً لسكرتير... أعمال لا حصر لها خاضها سليل الأغنياء، ذو الطفولة «البرجوازية»، تلك التهمة التي اتهم به والده في زمن شيوعي متزعم. أن نعيش كل تلك الأحداث والمسارات المليئة بالعاطفة والرؤى والصدمة والصمت، هو حتماً كنز من كنوز الحياة العزيزة علينا جميعاً، والتي تهبنا بالمقابل إحساساً كاملاً بالأشياء لنحولها إلى وجودٍ من حرف، كما تجلى ذلك من أديبٍ يستحق الاحتفاء بمئويته هذا العام.

 

Email