كنزٌ مفقود

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كل قصص الشرق والغرب، ثمة درجة من الوعي عند القاصة المحترفين منهم تحديداً، نلاحظها بين سطورهم الغرائبية عن الماورائيات، وكأنهم يريدون مواجهة أنفسهم وتحدي قدراتهم المتخيلة وأساليبهم الفنية المبتكرة، ليتجلى ما وراء الطبيعة ولو في عمل واحد من بين أعمالهم اعترافاً منهم بأنهم كائنات حية كالنباتات والحيوانات، وإن كانت رؤيتهم غير ممكنة، إلا أنه يكفي الإحساس بهم، فيقترب الرواة منهم سرداً كما فعلت الأديبة الإنجليزية المعروفة فرجينيا وولف من خلال قصتها القصيرة بعنوان «بيتٌ تسكنه الأشباح»، إذ تصف فيها بإبداع من خيال كيف أتى زوجان من الأشباح بيتاً، يستعيدان فيه ذكرياتهما الحلوة من إقامة سابقة وبعيدة..

هذه القصة التي كتبتها المؤلفة في ورقتين فقط، تحمل بين سطورها أوراقاً من الأحاسيس المكثفة وهي تسرد زيارة الزوجين الشبحين لبيت مسكون في واقعنا، لكن «وولف» أرادت أن تعيد النبض لأركانه بذكرياتهما وهما يتجولان ويهمسان بصوتهما الشبحي الهامس في الغرف العلوية والصالة والحديقة، ويتحمسان ويندفعان وهما يصفان ذاكرتهما بفرح حتى خشيا من أن الزوجين الإنسيين النائمين في البيت يسمعانهما، وهكذا يصف الشبحان كل ما في المكان من ورد وكتاب ومقعد وثريا وزجاج وضوء وعشب..

أتساءل هل كانت فرجينيا وولف تحاول أن نستشعر معها شيئاً فينا أو بيننا على حافة السمع والبصر لأشياء لم نعد نراها في دُورِنا، لربما كانت تجربتها الخاصة، وهي تجربة مكررة لكُتاب هذا العالم، لكن من خلال وصفها كل صرير وكل همهمة وكل صوت بعيد المدى أو دخيل أو عابر، تبدو وكأنها تسعى للمراهنة على شيء، وبرأيي أنها راهنت على الحياة والوقت كيف نعيشه.

الانعكاسات في قصتها متنوعة، من خلال كيف تنظر الأشباح إلى النوافذ المضيئة بنور الشمس، والزجاج والأوراق والتفاح الساقط على الأرض، وهبوب الرياح التي تراقص الأشجار لتتمايل، ولحظة تلاشي الضوء في الحديقة وينمحي البيت في الظلام، والسبب هذه الشمس المتجولة إلى الأبد والعاكسة كل شيء فينا حتى تأتي لحظة رؤية النجوم، فنشعل القنديل ليسقط ضوؤه من النافذة على عشب الحديقة.. يا لها من لحظات نادرة نحن فيها، وينبض المكان فيه..

أليست كنوزاً معاشة بل وخارقة، وآن الأوان لنواصل العيش في مثل هذا المزج الشبحي كما أتى في القصة، على أنه بحث عن كنز مدفون في قلب منزل نابض، وبالتالي في قلوبنا النابضة بإحساس المكان وبمن حولنا.

كان أسلوباً مبتكراً لـ«وولف» في قصتها هذه حين أصدرتها عام 1921م، وبعد إلهام الأشباح لها، أما اللغز الشبحي الذي يبحث عنه الجميع فهو لغز موهوم، لأنه ليس سوى كنز مفقود، أقصد كنز العاطفة في بيت يعكس بداخله وتفاصيله فرحاً خفياً.

Email