في عزاء فتاة العرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقودنا قصائد عوشة بنت خليفة في ديوان فتاة العرب الذي جمعه الأديب الراحل حمد خليفة بو شهاب إلى رحلة شيقة من تلك الرحلات الإبداعية التي لم تعد تهب رياحها الماطرة، لتخصب حقول الوجدان كما كان عليه الحال، ليصبح العتيق عتيقًا من خلال أشعارها الطرية التي عبرت بهجة الذاكرة ومزاج الحنين الرائق.

كانت قصائدها استثمارًا غنيًا في اللغة المحكية، لتمسك بها في غفلة منا وتجدد علاقتنا بالأرض والذات، وكأنها قد نذرت نفسها لتلك الولادات الأدبية الخلاقة، من حوار شعري وأفكار منظومة من صميم وجدانها...

من يتمعن في شعر الشاعرة الإماراتية عوشة بنت خليفة السويدي «فتاة العرب» لن يُنكر أنها شاعرة من أشعر نساء الإمارات سبكًا ورصانة ومثلاً ووصفًا، وقلائل من فَهَمَ الشعر النبطي كقيمة مطلقة في الحق والحب والخير والجمال... أما الراحلة فكانت صغيرة كما يشاع حين رأت في منامها القمر يهبط عليها من سماواته حتى بلعته، وكما قال المفسرون بأن للقمر مَنازله أثناء دوراته حول الأرض، وما أكثرها من منازل، ليكون لها من تلك المنازل نصيب، فتخيل البعض بعد شهرتها أنه لربما كانت منزلتها تلك إكليلاً أو قلبًا أو سعدًا... وهي من الأسماء الشهيرة لمنازل القمر.

لقد بدأت تقول الشعر رويدًا رويدًا بعد ذلك الحلم، قصائد عميقة رغم وداعتها، وجميلة في هدوئها، تضج بالمحبة والتواضع، تحمل في طياتها أجمل المعاني... نصوصها الشعرية إنصاتٌ جميل لصوتها الداخلي الذي لم يكن أبدًا صوتًا عنيفًا أو مجهولاً، بل صوتًا مشبعًا بما يُشعل القصيد، لتغيرنا... ألا يقال بأن الشعر يغير العالم؟

لم تفارق الأدب وقول الشعر أو كتابته كما أشاع البعض، فالشاعر الحقيقي لا يعتزل، وكيف تعتزل والشعر شيء في داخلها، ومبتكرٌ على لسانها... هي لم تترك الشعر، إنما اعتزلت مجتمع الشعر الذي لم يعد يروق لها، فيما بعد، وتُغير مسارها الأدبي وبرغبة خاصة، ليأخذ شعرها الوجداني العاطفي قولاً أقرب إلى الله.

للشعراء حكايات خَلاّقة وشخصيات مُستقلة لا تشبه غيرهم، وقَفَ الإنسان أمامهم مواقف مختلفة، أما فتاة العرب، فكل من طرق بابها وحضر مجلسها، قال عنها: ألطف ما خلق الله. حافظةٌ لشعر المعلقات من امرؤ القيس وعنترة... أما ديوان المتنبي فلا يبارح مجلسها.

والشاهد أن في حياة الشعراء تحيا أجمل الكلمات، وبلا شك أن في مماتهم تموت الكلمات... والآن ماتت شاعرة، فانطفأت نجمة، وذبلت زهرة في حديقة الشعر، وصَمَتَ العصفور حدادًا حتى انغلقت النافذة، ليطل الصبح كئيبًا... ها هي الآن تغادرنا، وحين يغادرنا شاعر ويرحل، يحل ذلك الوجوم على محبي الكلمة، فقد مات القول في روحٍ مبدعة تركت تجربة فريدة، وعزاؤنا أن الفرادة لا تموت.

لن ننساكِ أيتها السامقة.

Email