إحياء مجالس المأمون

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت تحذرنا إحدى المعلمات في المدرسة من القراءة لأحد المفكرين الذي كانت أقواله - كما زعمت - تناقض الإنسان والأخلاق والفكرة السليمة. لم يكن تحذيرها مانعاً، بقدر ما كان محفزاً لي للبحث حوله، حتى وجدت مختلف التفاسير والآراء من مؤيدين ومعارضين يحملون تجاه آرائه حججاً مقنعة ومنطقية رغم اختلافها، فناقشت المعلمة في اليوم التالي حول رأيي عن ذلك المفكر الذي لم يكن ليستحق منها كل ذلك النقد والتحذير.

وبأنني لم أجد في مقولاته معاني كما فسرتها، بل قد كنت ممتنة لبعضها التي أبصرت عقلي برؤى جديدة، لكن ذلك لم يزدها سوى نهر من الولوج إلى قاع الهاوية نتيجة الاستمرار في قراءة ما كانت تراه جُرماً. حينها، نما الخوف بداخلي بديلاً للاستكشاف والفضول، من الرأي والفكرة والتغيير.

في المرحلة الجامعية، أخذ تطبيق فن المناظرة في مختلف المواضيع التربوية والاجتماعية والسياسية الجدلية حيزاً من الاهتمام في عدد من المساقات، حين نُجبر في اتخاذ موقف ما والدفاع عنه، وإن لم يكن يوافق قناعاتنا. عندها، لم أجد صعوبة في مواجهة الطرف الآخر، بقدر ما كان التحدي الصعب يكمن في مواجهة نفسي والوقوف ضد آرائي وقناعاتي وأفكاري القديمة.

لماذا زرعوا في نفوسنا رهاب الانفتاح على الرأي الآخر، وكأنها رسالة توحي بضعف قناعاتنا ومبادئنا وآرائنا؟ فلو كانت قناعاتنا صادقة فعلاً، لما كان الرأي الآخر يشكل تهديداً وهاجساً لعقولنا وقلوبنا؟

إن حصر العقل البشري بين جدران فكرية بلا منفذ لن ينشئ سوى جيل لا يخاف تقبل الرأي الآخر فحسب، بل يهاب حسن الإنصات إليه، ويفضّل الاستماع إلى الثناء المنمق بدلاً من النقد البناء. جيل تُستدرج عواطفه بسهولة، فيجهل قياس الحقيقة المزيفة، والخبر الكاذب، والصورة المفبركة، ليُنتَجَ عقلاً متحجراً لا يؤمن سوى بالحجج الواهية ولا يبني مواقفه ومبادئه إلا من عبث وردود انفعالية وأوهام عاطفية.

أولئك الذين زرعوا فينا رهاب الرأي الآخر خوفاً من تبنيه والإيمان به، جهلوا بأنهم وأدوا الاضطراب الفكري الذي قد يولد إبداع التساؤل والبحث والنقد، واستبدلوه بيقين كاذب يضمر حيرة ستظل تشكل قلقاً مستمراً في نفوسنا، لقد جهلوا بأن الانفتاح على الرأي الآخر لن يمنحنا سوى قدرة على فهم طريقة تفكير الطرف المخالف، ومنفذاً لإدراك نقاط ضعفه وقوته، وبالتالي استغلالها لمواجهته وإقامة الحجة عليه، فلا يزيدنا ذلك إلا اطمئناناً بقناعتنا وإيماناً بأفكارنا وثقة بها وامتلاك قوة الدفاع عنها.

كانت لمجالس المأمون التي احتضنت الآراء المتضادة والقضايا الفلسفية مكانتها الحضارية والعلمية المرموقة، التي شكلت مرآة تعكس نهضة فكرية قامت على الانفتاح الثقافي والتسامح العقائدي بين مختلف الجماعات الفكرية، حيث مارسوا فيها أرقى فنون المحاورة والجدال والمناظرة.

فماذا لو ارتكز التعليم على عوامل النهضة في تلك العصور بدلاً من تلقين الأسماء وامتدادات تواريخهم؟

إن مادة التربية الأخلاقية وحدها لا تكفي لزرع التسامح الفكري والتعايش الديني في نفوس الأجيال القادمة، بل لا بد من إحياء ممارسات ونشاطات عقلية كتلك التي احتضنتها مجالس المأمون. إن إحياءها ستجعل العقول تبصر الصورة الكاملة لتدرك بأن لكل قضية وجهين، وبأن الكثير من نزاعاتنا الإنسانية لم تكن قائمة إلا على سراب من الحجج الواهية نتيجة تعطشنا لما يثبت صحة آرائنا فقط، حتى عجزنا تقبل حقيقة أن الرأي المخالف لا يعني الخطأ دوماً.

Email