بين الماء والموهبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت قد اقترحتُ لنفسي أَخذَ رأيه في نصوصي التي لم أنشرها بعد، فمن المحال ألا يضيف لي شيئاً ولو بملحوظة أو تعليق، وهو الباحثُ والشاعرُ في صدارة المشهد الأدبي في الدولة، شعرًا وتوثيقًا. كنتُ أعلم بمرضه وتعبه، لكن من سوء حظي أنه في ذات الأسبوع أُدْخِلَ المشفى كما سمعت من أصدقائه، حينها قررتُ أنا ونصوصي الانتظار، فليس سواه يستطيع أن يرى بحثي العائد إلى زمن الكشوفات الجغرافية الأوروبية، تحديدًا البرتغال التي ولجت مدينته العريقة خورفكان، وكم كانت كتاباته التخصصية ثرية عن تلك الفترة، محللاً ومفسرًا الساعات المظلمة على سواحل الخليج.

وَعَى مبكرًا ورأى أن منطقة جزيرة العرب تطفو على كنز من التراث الشفاهي، فاهتم بذلك وجمع الكثير. أحببتُ كتاباته التوثيقية في «دردميس» تلك الحكايات التراثية الشفهية التي جمعها، ووضعها المجمع الثقافي حينئذٍ في أقراص الليزر المسموعة. كذلك حكايات قصيرة دمجها في كتاب «حصاة الصبر» وحكايات أخرى له الفضل في دمغها بعد لملمتها وضمها... ولأنه باحث ومن أصل شاعر، محققًا كينونته اللغوية المضيئة والمسكونة في خصوصيةٍ فلكلوريةٍ وطنية، فإنه خشي من العمائر الحديثة والزاحفة طولاً، فالمشهد القصصي والميثولوجي الموروث كاد أن يدفن أسفل الإسمنت الجديد ويخفت جَرْسَه وحِسّه أمام دَوِيّ المطارق والمعاول التكنولوجية.

تفرغ في البحث وكرس نفسه ليقاوم صوت الضجيج بعناوينٍ من أدب الأرض لتتصدر مفرداته الإبداعية... تذكرتُ كل ذلك وأنا في انتظار شفائه في المشفى، لكن توقف قلبه ولم يبلغ الخمسين بعد، ويدفن في مدينته خورفكان التي قال عنها ابن بطوطة أنها أرض الأشجار والأنهار، بالطبع لم تكن هناك أنهار، فكثرة الأفلاج وجريانها أوحت له بذلك ربما، وكذلك الجنرال البرتغالي ألفونسو دي البوكيرك، مرَّ عليها بعد ابن بطوطة بقرن ونصف ليذكر في مذكراته أنها بلد المزارع والمياه العذبة، والهولندي «فوجل» فيما بعد، قائد البعثة الاستكشافية الهولندية: خورفكان مبنية من سعف النخيل، ووادٍ جميل يقع بين الآبار... لأعتقدُ على الدوام بأن المدن أو القرى العذبة التي تشرق الشمس على أشجارها وحُفرها المتفجرة بالماء، هي التي تُطلق ثمارها من المواهب، وتُنبت الأنفاس العذبة والخلاقة في أرضها لتختال بحب الوطن كما الراحل الأديب «أحمد راشد ثاني»، المولود في مدينة الأدب، وأرض تجود بالنخيل والعيون العذبة.

كَتَبَ قصائده الشجنة، بعد تشجيع من الشاعر السوري محمد الماغوط، مؤكدًا له أن شاعرية كبرى تسكنه، مع قوة لغته وعمق فكره...

وأخيرًا بين حضور الماء والموهبة، ألا تتشكل النصوص العميقة بعمق تلك الآبار والمواسم الملونة؟ رحم الله الأديب أحمد راشد ثاني الذي لم أعرف له مقابلة أو مواجهة، بل فارقنا حين قررتُ اللقاء، لتظل نصوصي معي دون اطلاعه.

Email