التنقيب في الحواشي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قالت الشاعرة ميسون صقر القاسمي يومًا خلال استضافتها في أحد البرامج التلفزيونية، في معرض إجابتها عن سؤال مفاده: إن كانت تحتفظ بما تكتبه من الكتابات الأولى للقصيد من تلك المحاولات العديدة، كذكرى بعد طباعة قصائدها؟ حيث أجابت مبتسمة أن لا أهمية لكل ذلك بعد أن تكونت الأبيات وطُبعت، وأنها تتلف ما لا تنشره، وتتخلص منه حرقًا أو تقطيعاً، لانتفاء الحاجة إليه، وأضافت إن الأهم هي القصيدة بشكلها النهائي الذي اقتنعت به، وكان رأيها قريبًا من رأي الشاعر العراقي عمر عناز الذي قال في السياق ذاته: إن الخربشات الأولى هي القصيدة في طفولتها، وأضاف: إنها فضيحتي الكتابية حين كنت مشوشاً وعلى شفا حفرة من الجنون، لذلك لا أحتفظ بالكثير منها لأنها تذكّرني بالمراحل المعقدة التي جهدت جدا لأخرج منها بقصيدتي في شكلها الأخير.

ولعل الأمر يختلف عند المبدعين الآخرين عن الشعراء وخربشاتهم، والشاهد أن الأعمال الإبداعية الأخرى، وبالأخص القديمة منها لمن سبقونا في الزمن السالف، تلك التي أُكملتْ جانبًا بحواشيها على حافة الصفحة، علينا ألا نستهين بها، لأنها كتبت بحرفية عالية ودون فوضى كي لا تضيع الفكرة المطروحة والمتسلسلة من مسارها، فالحاشية معززة للقول دون التسلط على القارئ، ليتم التوضيح في طرف الصفحة ما يسمى بالحاشية، وبحبر مغاير اللون وبحروف صغيرة ومائلة قليلاً.

ولأننا لا نستطيع أن نعثر على خربشات الشعراء المتلفة تلك التي أردنا منها أفكارًا جديدة ننطلق منها.. ولا نقدر الحصول على ما تخلصوا من فواكه الأفكار التي عجزوا عن نشرها بعد الإفاقة من سلوى الإلهام، فهذا لا يمنعنا من أن نقوم بالبحث عن الحاشية المتوفرة في كتب تاريخية وأدبية ومسرحيات كلاسيكية، نترصدها بوعي، لنصطاد في تلك المساحات الضئيلة ما نريد من الأفكار الأولى، فحواشيها الآن أشبه بحكايات لم تحك، تمنح خيالاً لعمل إبداعي جديد، وغالبًا هي مرتع خصب للخيال، تقترح لعيوننا مشهدًا أشبه بمرايا تعكس نصوصًا ممكنة، لما فيها من تمتمات تخترق نوايانا المتوقفة عند جداول السرد، ولا نستغرب أيضًا إن خرجنا من تلك الحواشي ونحن نسلك طريقًا جديدًا لبناء فكرة أو موضوع للولوج في بحث أكاديمي مميز.

إن أردنا بعض الأفكار الجيدة التي يجب أن نبحر بها كَكُتاب علينا العودة إلى قراءة كلاسيكيات الحواشي، نتوغل فيها من جديد لما تحتوي من ثقوب ليست خالية بل فيها ما نملأ به متونًا جديدة تحقق الكثير.

Email