تَفَرُغ

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أيام نظمت وزارة الثقافة وتنمية المعرفة «ملتقى المعرفة الثاني»، دعت المؤلفين والأدباء ودور النشر ومسؤولي المؤسسات الثقافية وكُتاب قصص الطفل والمسرح، ليناقشوا من خلاله أهداف الوزارة الاستراتيجية في دعمها للإنتاج الفكري في الدولة وبناء مجتمع معرفي، وبالتالي تأخذ الوزارة المقترحات للاطلاع عليها. لكن المقترحات تداخلت وخاصة مع رغبة الكُتاب المؤلفين في التفرغ، وأن تُسوق الوزارة أعمالهم بشكل أفضل، والحرص على دعوتهم كل حين في ندوات تقام في الدولة، وضبط معايير النشر في هذا الزخم.

الاقتراحات رائعة لكنني بعد الملتقى بدأت أفكر في موضوع التفرغ الذي كنت أتمناه مثل الزملاء المؤلفين، كونه حق أمام كل هذا الجهد البدني والفكري الذي نمر به.

لكنني بدأت أخشى إن تم تفريغنا أن تتحول شهية العزلة التي نتوقُ لها والانقطاع عن هذا العالم، إلى التأجيل كل حين. ألستُ مُفرغة؟ هو ليس إجازة أو استعراض، فحينها سوف نصبح مراقبين؟ ونُحاسب إن لم ينتشر المنتج، فلن نستطيع حينها لوم المؤسسات على التسويق، فنحن مفرغون ولا بد من أن النص الجيد يفرض نفسه. ونتخيل أيضاً بعد التفرغ وبعد النشر ألا يباع الكتاب كما هو متوقع، فملعب البيع والشراء لا يقره الروائي، والتفرغ لا يضمن البيع ولا القراءة.

لم نعد في الزمن الذي عاش فيه الأميركي «هرمان ملفيل» الذي مات من البرد والجوع بعد أن كتب روايته الخالدة «موبي ديك» فطارت الرواية شرقاً وغرباً بعد وفاته وإلى الآن ترفض الرواية أن تموت.

فلنتساءل: الكتابة بدوام جزئي، ما بها؟ ألسنا بخير ونحن نصارع الوقت والازدحام والمجاملات؟ فأين الجمال في الكتابة وأين سيذهب العمق ونحن لا نصارع أحداً؟ باعتقادي أنه من الجيد أن تكون الكتابة مهنة ثانية، فالتفرغ لا يتوقف على الراتب الشهري. وأن نمعن النظر كيف نكتب في هذه الحياة، فنحن لا نلعب بأقلامنا إن كانت فعلاً حرة وواعية. التفرغ ليس هرباً بل مسؤولية، سوف يراقبنا الجميع مهما اعتزلنا، ويسألوننا سؤالهم المعتاد: متى تنتهي من عملك السردي؟ ونحن نعلم بأن الإجابة صعبة، لأننا لا ننشئ أسمنتاً بل خيالاً، فساعات الكتابة تسيطر علينا، تحسبنا ولا نَحسبُها، واختلف مع كل من يعرف متى ينتهي من كتابته.

أعترف أن الكتابة جهد كبير تحتاج تفانياً خاصاً، وطاقة بدنية وفكرية هائلة، لكن الخوف بعد التفرغ أن يتحول التفاني إلى نوع آخر، التفاني لا للخيال والسرد، بل لمن ينتظر الكتاب الصادر، ولن نستطيع أن نتأمل ما يزدحم في دواخلنا من أحلام في الوقت المحدد الذي منح لنا، فالسرد قفزة عملاقة ومجهولة يعتقد البعض أنها من الخيال إلى الواقع، لكنني أراها طيراناً وارتفاعاً من الواقع إلى الخيال. لأنه حلم، وعلى السارد الالتزام بهذا الحلم.

Email