إن الكاتب الحقيقي هو الذي ينجح بدقة وصفه في خلق بيئة تغرق القارئ في أحداثها حتى تجعله يعيش طقوسها ويراها حية، لذا فلطالما كانت تستفزني الروايات وقصص الأدب العالمية التي تترجم إلى أفلام سينمائية كبرى يذاع صيتها ويحصد بعضها جوائز عالمية، أو حتى إلى مسلسلات درامية شهدتها شاشاتنا مؤخراً، يدفعني الفضول إلى التلصص على صفحات الرواية واكتشاف سر براعة كاتبها، فأي قوة تأثير تلك التي امتلكها وصفه وكلماته لتستفز خيال المخرجين أو صانعي الفن السابع ليسخّروا طاقاتهم وإمكاناتهم ويحولوا تلك النصوص إلى مشاهد حية؟

لطالما وجدت متعة في قراءة تلك الروايات التي غالباً ما أراها تنجح بجدارة في استفزاز خيال القارئ فلا أستنكر تحولها إلى الشاشات التي يراها البعض بديلة عن الرواية، ليبقى تساؤل: هل المشاهد السينمائية أو الدراما المقتبسة من الروايات والقصص كفيلة بأن تنقل فحواها وجمالها وتخلق المتعة ذاتها لتجعلنا نستغني عن قراءتها؟

لم تصلني مشاعر الذنب الحقيقية التي اعترت أمير، ولم تجتحني موجة الكره والبغض تجاه عاصف كما عشتها أثناء قراءة رواية عداء الطائرة الورقية حين شاهدت الفيلم المقتبس من الرواية ذاتها التي برع في كتابتها خالد حسيني.

واليوم، تحاول إحداهن إقناعي بأن أشاهد حلقات مسلسل ساق البامبو التي عُرضت مؤخراً، لكونه مأخوذاً من رواية للكاتب سعود السنعوسي والتي فازت بجائزة بوكر العالمية وترجمت مؤخراً إلى عدة لغات، رفضت الفكرة ليس لكون المسلسلات الخليجية لم تعد تستساغ فحسب، بل لأنني أصبحت أؤمن بأن متعة القراءة لن تضاهيها متعة المشاهدة، لتبقى الصفحات المكتوبة وكلمات الوصف تخلق عالماً أعمق من الشاشات المعروضة.

وإن نجح ليوناردو دي كابريو في إتقان دور غاتسبي العظيم، وأبكت دموع شايلين وودلي وأنسيل إلغورت عيون الكثير من المشاهدين في فيلم the fault in our stars، وإن برعت آن هاثواي في دور فانتين في الفيلم الموسيقي المقتبس من رواية البؤساء، حيث رسمت تعابير الوجه والصوت التي حملت من ملامح الألم والقسوة والظلم ما كان كفيلاً ليجعلها تنال جائزة الأوسكار بجدارة كأفضل ممثلة مساعدة، إلا أنه مهما بلغت روعة المشاهد الحية المقتبسة من الروايات فإنها لن تملك قوة تأثير قراءة الرواية بشخوصها وتفاصيلها، تلك التي تصنع في خيالك مشاهد سينمائية ودراما عظيمة لتصبح أنت من تختار زوايا التصوير، وأنت من تصمم قطع الديكور وتغير في المؤثرات الصوتية والموسيقى المصاحبة وتدمجها معاً حتى تتناسب مع المشاهد التي تصنعها، ويصبح الممثلون دمى تتحكم أنت بخيوطها، بل ولربما تعيش أنت أحد أدوارها، بمساعدة ذاك الكاتب الذي يصنع منك مخرجاً مبدعاً وممثلاً بارعاً، وستظل متقمصاً هذا الدور وإن قلبت الصفحة الأخيرة، لتعيش متعة أخرى، متعة التفكر بعد القراءة.

في عصر الشاشات المصممة بأحدث التقنيات العالية، سيظل بداخلنا طفل يتوق للاختباء تحت لحاف الليل ليبحر في خياله ويستشعر حميمية شخصيات قصص ما قبل النوم وهو ينصت بدفء إلى وصف كلماتها التي تُروى بصوت أمه.

أطلق الطفل المخرج الذي بداخلك، ولا تقتل تلك المتعة بضجرك من القراءة والتقيد بمشاهدة شاشات رسمتها مخيلات أخرى.