كان علي انتظاره في المقهى لبعض الوقت، ولم أكن أحمل كتاباً في حقيبتي كما تعودت. أمامي نافذة تطل على خور دبي وفي شرفتها الضيقة وقفت سيدة تدخن سيجارة رفيعة بيضاء، بينما تحمل في يدها الأخرى حقيبة حمراء صغيرة عليها رسمت سيارة بعينين وفم يبتسم. اقترب منها طفل في الخامسة ففهمت أنها والدته وتحمل حقيبته. مثل هذه المشاهد تلهمني عادة لكتابة قصة قصيرة، لكنها لم تفعل هذه المرة. ربما تكون السيجارة السبب.
الخطوة المنطقية الأخرى كانت أن أشغل نفسي بهاتفي المحمول، لكنني أردت الاقتراب من جماد آخر. قطعة مختلفة بلا روح أكثر اختلافاً من الهواتف والأجهزة الذكية. شيء أكثر صمتاً كالملعقة الجاثمة أمامي. قلبتها لاكتشف اسم روبرت ويلش المنقوش عليها، وكان أن أعادتني إلى هاتفي من جديد للبحث عن هذا الشخص الذي اتضح أنه حداد ومصمم بريطاني.
في إحدى أجمل قصائد تي. اس. إليوت بعنوان «قصيدة حب جي. ألفرد بروفروك» يتحدث على لسانه قائلاً: «لقد قمت بقياس حياتي بواسطة ملاعق القهوة.» أراد إليوت هنا أن يوضح أسلوب الدقة المتناهية التي يحيى بها بطل قصيدته. فهو ببساطة لا يتخذ أي مواقف عشوائية أو خطوات إلا بعد دراستها جيداً، كأنه يقيسها بملاعق القهوة الصغيرة.
على حسابه في الانستغرام ينشر المصمم النرويجي ستشاين كورنتفد راد تصاميمه الخاصة للملاعق بشكل يومي بعد أن قرر تطبيق مشروعه «ملاعق يومية» الذي يلتزم عبره بتصميم جديد لملعقة كل يوم ولمدة عام.
تكمن صعوبة التحدي في أن راد يقوم بابتكار 365 شكلاً جديداً لأداة بسيطة جداً وتُعد من المُسلمات التي اعتدنا استخدامها دون إعادة التفكير في أبعادها. أيضاً، فهو يقوم بصناعة النماذج التي يصممها بنحتها يدوياً من الخشب ويعرضها للبيع من خلال موقعه الإلكتروني.
أيهما أصعب وأكثر إبداعاً وتفرداً، أن تبتكر شيئاً جديداً لم يسبقك إليه أحد؟ أم، أن تعيد ابتكار شيء مألوف بشكل لم يسبقك إليه خيال وتصور أحد؟
في تجربته يقول ستشاين راد أنه تعرف على أنواع الخشب المتعددة وخصائصها وتمكن من الاقتراب من الطبيعة منطلقاً من فكرة غاية في البساطة. في حقيقة الأمر، نحن لا نرى أشد الأمور أهمية في حياتنا لشدة بساطتها. نحن نعيش واقعاً استهلاكياً سريعاً لم نعد بسببه قادرين على رؤية الدقائق والتفاصيل الأكثر قيمة.
إيمان اليوسف