الشكل السردي للعمل الروائي «المسيح الأندلسي»، هو شكل يمثل حالة إبداعية، تتدفق بين ثنايا المشاهد المعلومات التاريخية النادرة.. تفاصيل وبيانات بأفكار معرفية محققة نُقِشت في الرواية، لتنساب مع خط المسار، لمشاهدَ متقنة باتجاهاتها وأبعادها، من أجل المزيد من الجمال الإبداعي... حتى أثناء العودة إلى ماضي البطل، بالتذكر، كإيقاع له صوته، ورائحة الزمن في هيئة مشوقة.
المؤلف الروائي تيسير خلف من الباحثين الجادين، ويشهد له إنتاجه البحثي، أما في السرد الأدبي، فيبرع في منح القارئ فرصة التأويل، والتفكيك، وإعادة التركيب.. مثل فكرة هذه الرواية وبطلها، فمن الأزمان التي مَرت على تاريخ العرب والمسلمين دون نسيان، هو زمن سقوط الأندلس من أيديهم، وإجبارهم على التنصر، فمنهم من فعل ومنهم من خرج، وهناك من أخذ يمارس دينه سراً، ليروي لنا تيسير خلف في روايته المسيح الأندلسي، رحلة البطل من غرناطة إلى الأستانة إلى مدن أوروبا، وهو غونثالث الإسباني الكاثوليكي، والذي علم في ما بعد أنه عيسى بن محمد، ووالدته من الموريسكيات اللائي تم تعذيبهن بعد محاكمة، بسبب إخفائها دينها.
هنا تأتي فكرة الرواية، من خلال البطل وبحثه عن اليقين وأوراق أخرى، وهو يعبر الأمكنة والمدن المذكورة بأسمائها المعربة الأولى، ونستبين في السرد مدى قدرة المؤلف على التكيف، أينما حل في زوايا التاريخ، وبدقة.. فما مصير البطل في تلك المحطات والأسفار، وهو يحاول ألا يستغني عن رؤاه من خلال لغاته وعشقه..
ولعل من أجمل المشاهد في الرواية، هو أثناء وصول غونثالث إلى دير الرهبنة الفرنسيسكانة، حيث يُطلب منه ترجمة المخطوطات العربية المقفلة لديهم، وإلا فمصيره مجهول، ليظل في الدير بين تلك المخطوطات، وبين الترجمة والاختصار، ويقرأ الكثير من علوم العرب والمسلمين في الطب والفلسفة والدين... لتمر السنوات على غونثالث، ويتغير، وتتبدل فلسفته في الحياة، ويتخلى، ويصبح ناسكاً، أو لعله إنسان من دون أُطر، فلم يعد هو الذي دخل الدير، ومدى الفرق الجوهري الذي يحدث للإنسان في صحبة الكتب، بتغيير مشاعره ومفاهيمه..
يقدم تيسير خلف تجربة تاريخية إنسانية، كفنّ من فنون الكتابة، وكائن ينصت لعزلته وأحلامه وعشقه وخساراته وآلامه في ذلك الدير، حتى بعد خروجه.
«المسيح الأندلسي» ليست رواية فحسب، بل طرح مأساة ما بعد 1492 م، وهو تاريخ سقوط مملكة غرناطة، والمزاعم الفكرية والعسكرية والدينية التي خرجت بين عالمين، الشرق والغرب، وهي مزاعم لم تنتهِ بَيْنَ بَيّنٍ وخَفيّ، وربما حتى اليوم.. هي فترة تستحق أن تُكتب عنها روايات، لا رواية، أما تيسير خلف، فانحاز إلى هذه المرحلة من نافذةٍ روائيةٍ إنسانية.