ترنّح في الرواق. كاد يسقط، تمهّل. تلكّأ على الجدار هنيهة، وتابع خطوات بطيئة. فكّر للحظة أن هذا الرواق الطويل، الذي يفضي إلى الباحة الخارجية، لن ينتهي، وأنه لم يعد قادرا على الاستمرار، وسيعيش السقوط قبل أن يصل إلى الشمس.
فكّر بأن هذا النفق المظلم، الذي يخلو من نوافذ للنور، يشبه حياته: مسار طويل مظلم. لعن الساعة التي ارتضى فيها العمل في هذه المهنة. هو يعرف الحقيقة في قرارة نفسه، ويعرف أنها مهمة وضيعة، كلها كذب ورياء وتمثيل. كل دقيقة، عليه أن يرتدي قناعا جديدا، فهو تارة امرأة، وتارة رجل، وتارة أب، وتارة شاب، .
وهو مرة مهندس، وأحيانا «دكتور»، وفي مرات كثيرة «مدقق لغة عربية».. لكن مهما اختلفت المسميات، وتلونت الأقنعة، فالهدف واحد: تصفح مئات المقالات المنشورة يوميا على المواقع الالكترونية للصحف العربية، ووضع «التعليقات المناسبة». .
في البدء، كانت المهمة «ممتعة»؛ أن يشكك في نزاهة هذا الكاتب، ويتهم آخر بقبض «رشوة» من أجل المضي بـ«الكتابة المغرضة»، ويبحث على «غوغل» عن اسم كاتب آخر، محاولا أن يشرح شخصيته ويحلل هواه ويعرف «ارتباطاته» الداخلية والخارجية، عبر الفحص والتمحيص في ما كتب خلال سيرته.
وفي مرات، عليه أن يكتشف صفحة الكاتب على «الفيس بوك»، لكي يرسل إليها فرقة مدرّعة من «الفيروسات» على هيئة وصلات الكترونية. لكنه، وبعد مرور ثلاثة شهور، على إجباره على القيام بهذه المهمة التجسسية، يشعر بالإرهاق، .
وبالقرف من نفسه، لكنه لا يجرؤ على مكاشفة أحد، ولا حتى زوجته، بما يفكر فيه. فهو يعيش في خوف عظيم يجعله جاهزا دوما للقيام بالمهات الدنيئة: «عليكم أن تردّوا وتستفزّوا وتمعنوا في لغوكم، كي يتشوش القارئ أو يخاف الكاتب»، يتذكر تعليمات سيّده، قائد الفرقة في «جيش الدفاع الالكتروني».
يبلغ الشمس أخيرا. يأخذ نفسا عميقا كمن كان على حافة الاختناق. يفكر.
: ليتني أعيش في النور طوال الوقت، كما الكتّاب الذين أهاجمهم. ليتني أهجر عتمة الجبن والمذلّة ومهنتي الوضيعة. ليتني أعود إنسانا.. حراً!