لو لم أكن أنا.. من سأكون! لربما قد أكون «فتحية» من السودان محاضرة في جامعة الخرطوم، أو قد أكون «لي» بائعة خضار في سوق فيتنام الشعبي، أو أكون صبياً كينياً يدعى «أديسولا» غذائي عصيدة وأفترش التراب وألتحف القش..

وقد أكون أنا من وضعت نظرية النسبية وليس آينشتاين في القرن العشرين، وقد أكون ولي عهد السويد، أو «أغيدو» النيجيري تاجر المخدرات والسلاح، أو «فكتوريا» الثرية الأميركية جامعة التحف الفنية، أو قد أكون أنت، وتكون أنت أنا.

ولكني لست أحداً منكم.. بل أصبحت على ما أنا عليه، دون قرار ودون اختيار مني.. وكذلك أنت. لم أتخذ قرار التعليم وأنا في سن السابعة، بل تم اتخاذه بالنيابة عني، فقد كنت محظوظة بالنشأة في كنف عائلة تؤمن بالتعليم. ولم أسرق، ولم تكن يدي سفلى، فمن حسن حظي أن وضع عائلتي المادي ميسور ومستور..

لكن كل هذا وذاك، وجدته داخل صندوق، كان هو الشيء الوحيد الذي عثرت عليه في صحراء الفناء، في عالم سماوي انبثقتُ منه إلى هذه الحياة ولهذه الدنيا، وما أن اعتادت عيناي على نورٍ سطع من بين درفتيه، حتى هرعت أفتش في محتوياته بلهفة ورغبة عميقة لمعرفة مكنوناته، وكلما حصلت على شيء منه نظرت إليه بعين فاحصة تود معرفة التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة..

كنت وما زلت أشعر أن سبيل النجاة الوحيد في هذه الأرض الجديدة، هو إيقاد شعلة المعرفة والاستئناس بنورها أو أن أجد على النار هدى. ومن كل قبس من هذه النار، أصبح لي قرار واختيار في بعض تفاصيل رحلتي الكبرى.. إن مقاومة الاعتراف بالخطيئة، ومقاومة الصفح والغفران على سبيل المثال بطريقة عاطفية مبعثرة، لهي بحاجة إلى مقاومة أعظم وأشد.

أتذكر أنني شاهدت مقابلة تلفزيونية لامرأة صفحت عن قاتل طفلها، وكانت إجابتها حين وجه إليها سؤال عن سبب عفوها عنه: «تعبت من حمل القاتل على ظهري، لقد أنهكت الكراهية قواي، أصبح هذا المجرم هو حياتي وتفكيري وهمي الأكبر وشاغلي، لا سجنه شفى غليلي ولا إعدامه سيكفل لي الهدوء والسكينة، فأدركت أن تقبل الكارثة والتوقف عن مقاومة ما حدث هما طوق النجاة».

كذلك لا بد لنا أن نقبل ونتسامح مع الكثير من تفاصيلنا، ونزيل الشوائب والأغبرة العالقة على زجاج أرواحنا، لتحيك خيوط النور المتغلغلة نسيجها الممزق من جديد، ولنتذكر قانون نيوتن الأول «لن يبارح الشيء مكانه، طالما تدفعه من كلتا الجهتين قوتان متساويتان في المقدار ومتعاكستان في الاتجاه، فتكون محصلة جهودهم تساوي صفراً».