ثنائيات قاتلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الدوران في حلقات مفرغة ظاهرياً مهنة تحترفها النخب منذ اللحظة التي ارتضت لنفسها التظلل تحت عباءة الأقوى، واكتفت بدور رديف لا يليق بملكة المعرفة وفضيلة العارفين، فحاكت لنفسها شرنقة تبقيها في مأمن واهم، فهجرت وظائفها لحظة الحاجة إليها.

واكتفت بتقديم وجبات تنظيرية مضللة لا تبتغي منها سوى المحافظة على مكاسب صغيرة تخصها هي وحدها محاصرة نفسها بآفة العجز، عجز الذاكرة وقصرها واقتصارها على الآني هاجرة منطق الإحاطة والاستمرارية في أحداث جسام تفعل فعلها في الواقع.

أفرز هذا التوجه النخبوي مقولات ابتلعت ما سبقها من أطروحات في المشهد السياسي العربي لا سيما بعد الربيع العربي، ففي زمن الوحدة منتصف القرن الماضي، خاضت هذه النخب معركة تحديد أولويات واهية في رفع شعار ثنائية الوحدة والتحرير وأيهما أسبق على الآخر وكانت معركة خاسرة بامتياز.

فلا الوحدة تحققت ولا التحرير، موهمة الرأي العام بأن مسألة الوحدة أو التحرير قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وأن القضية لا تتعدى كونها قضية خيارات وتحديد أولويات، مع أن أياً منها غير واقعي، ولا يشكل خياراً حقيقياً لافتقاره إلى مقومات التحقق ذاتها.

وفي يومنا هذا، تخوض النخب ذاتها معركة أخرى في سياق المفاضلة عينها، فتطرح ثنائيات تفاضلية أخرى التي لا تقل فتكاً عن سابقاتها، فمن الغريب أن يحشر الاستقرار والديمقراطية أو الحرية والفوضى أو الإرهاب والاستبداد أو الحرب والسلام في منطق التفضيل في مشهد تنظيري لا يسمن ولا يغني من حلول وكأن الناس يملكون زمام أمرهم بأيديهم ولا ينقصهم سوى الاختيار بين هذه الوصفة السحرية أو تلك.

تفتيت تلك الثنائيات ومقابلة أجزائها بعضها بعضاً لا يندرج في خانة التضليل أو ضبابية الرؤية فحسب، بل إنه يرقى إلى سوية الجريمة النظرية، فمن قال إن الاستقرار يتعارض مع الديمقراطية أو أن الحرية صنو للفوضى أو أن محاربة الاستبداد لا تستدعي مكافحة الإرهاب، ومن قال، مثلاً، إن عمر المأساة السورية من عمر الربيع السوري.

لا بل كيف يسمح بتجاهل العمر الحقيقي لمأساة العصر الممتدة منذ نصف قرن كان حاشداً بالثنائيات «المتناحرة»، التي أفضت إلى الإمعان في بسط عقلية الوصاية على الشعب السوري، فبعد أن حشر النظام السوري أيام الأسد الأب الناس في ثنائيات لا حصر لها، ابتدع نظام الأسد الابن، منذ لحظة وصوله عنوة إلى السلطة، ثنائية الاقتصاد والديمقراطية، في متوالية لا تنتهي من الثنائيات القاتلة.

Email