ماركيز يقرأ كعادته

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يذهب مسعى المحتشدين من محبين ومراسلين أمام المستشفى المكسيكي سدىً، فقد منحهم الناطق باسم الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، أو من دأب على القول، إنه يتكلم بلسانه، معلومة لا تقدر بثمن، تجاوزت آمالهم في الاطمئنان على صحة الكاتب، إثر وعكة صحية ألمت به الأسبوع الماضي.

وأبقته نزيل ذلك المستشفى لخمسة أيام متتالية، فعلى الرغم من أنه عاملهم بشيء من الفظاظة، طالباً منهم الرحيل عن بوابة المشفى والذهاب إلى أشغالهم، وعلى الرغم من عدم تمكنهم من رؤية الرجل الثمانيني عند عبور سيارة الإسعاف، التي أقلته إلى بيته الريفي، فإنه أشفى غليلهم وكل محبي صاحب النوبل حول العالم عندما أردف قائلاً، إن الصحافي الكبير يتمتع بمزاج رائق، وإنه يقرأ مثلما فعل عملياً طوال حياته.

إنه يقرأ.. عبارة جبّت ما قبلها من أقاويل وإشاعات راجت حول تراجع الصحة العقلية والنفسية لمؤلف «مائة عام من العزلة» مثلما تحدثت عن حالة من وهن الذاكرة لديه، ففعل القراءة يشترط مزاجاً رائقاً حتى يستوي بوصفه أرقى أشكال الممارسة الإنسانية بحضور الذاكرة دوماً.

فقد أبدع خورخي لويس بورخيس حين ربط الإبداع بالذاكرة والنسيان: «القراءة بالنسبة إلي ما هي عليه بالنسبة لصمويل جونسون، كل ما يجعلنا ننسى الآن وهنا، كل ما يبعدنا عن ظرفنا الشخصي، كل ما يعظمنا، كل ما يحسننا».

القراءة هي تلك المتعة الخاصة بامتلاك كتاب. وأنا كرست جزءاً من حياتي للقراءة، وفي ظني أن أحد أشكال السعادة يكمن في القراءة. وهناك شكل آخر أقل سعادة يكمن في الإبداع الشعري أو ما نسميه الإبداع، الذي هو خلطة من النسيان وتذكر ما كنا قد قرأناه.

لا إبداع، إذاً، بعيداً عن القراءة، لا بل إن أحدهم لا أذكر اسمه قال، إن الكتابة ليست أكثر من إعادة كتابة ما هو مكتوب أصلاً، وهذا منطقي إلى حد كبير، فالعقل ينهل من كل المنتج المعرفي الإنساني في نهاية المطاف، وعندما نتوقف عن القراءة.

فإننا نجفف عملياً منابع المعرفة بما في ذلك ميدان الأدب، ملعب ماركيز، الذي كتب بدوره: الدورة التدريبية الأدبية يجب ألا تكون أكثر من دليل حسن للقراءة، لكن ضرورات القراءة لا تقتصر على النخبة على الإطلاق على الرغم من كونها فعلاً فردياً بامتياز، ولا بأس هنا من اقتباس كلمات أخرى قالها ماركيز في القراءة أيضاً: أعتقد أن حيواتنا جميعاً ستكون افضل إن تأبط كل واحد منكم كتاباً.

لا ندري إن كان ماركيز سيتحف قراء العالم بجديد رغم اليقين بثراء جعبته دائماً، لكن يكفينا سعادة أنه يقرأ، ذلك أن صوت القراءة يعلو على صوت الكتابة، وينتجه في أي حال، وليزهو آخرون بما كتبت، أما أنا فأفخر بالصفحات التي قرأتها، على حد تعبير كاتب «الألف».

Email