أسماء هاربة

ت + ت - الحجم الطبيعي

علا صوت حارس الحدود عند الغابة على صوت قيد النفوس، وطغى صوت حارس المخيم على صوت السجل المدني ودفتر المؤن. وتسيد صوت المحقق على لون بطاقة الإقامة المؤقتة منذ عقود وكذلك وثيقة السفر.

أما عامل الإغاثة، فكان صوته أعلى الأصوات كلما جاء حاملا معه فتات الطعام منادياً على نزلاء المخيم بأسمائهم الواحد تلو الآخر بغض النظر عن عدد سنوات عمر كل منهم ، فلا وقت ولا ترف للتميز بين صغير وكبير أو امرأة ورجل. الكل سواسية في عينيه. لذلك كان صوته الأعلى في مسامع أصحاب الأمعاء الخاوية من ذوي الأظفار الناعمة.

تسأل طفلاً لاجئاً عن اسمه، فيأتيك الجواب اسمي "ملخم". حاء قلبتها الحدود والغابة وسحقتها جدران المخيم الداكنة ولاكتها ألسنة غريبة بوحل مستنقعات الكبار قبل أن تستقيم وتصبح خاء على لسان صغير تحول بدوره إلى بهلوان دائم الحركة لا تستقر حركاته وتفكيره على حال في انتظار وجبة زهيدة تالية علها تسكن ما خلفته ما قبلها من جوع وأسى.

لا ذاكرة للأسماء في منشأها ولا في أرضها الجديدة. تموت وتنبت مكانها أخرى تحمل أشباه أسماء هي ساكنة في الأصل وقبل أن تهزها نداءات الغرباء.

في لحظة اسمية هاربة من اللغة، يصبح اسم اللاجئ والمهاجر والباحث عن أمان مفقود ولقمة عيش شاردة.

يصبح أصدق أنباء من الوثيقة الرسمية تحت ضربات تحولات قصرية طارئة على تاريخ الفرد آخذة أشكالا عديدة وغريبة بغرابة دوافع وظروف تغييرها واغتصابها لأسباب تتنوع بدورها فتأخذ شكلا عرقياً تارة أو دينياً أو سياسياً أو حتى فكرياً تارات أخرى.

بينما يتجسد أخطرها وأحدثها وأكثرها انتشارا في تجربة يخوضها المهاجر العربي في بلاد الغرب منذ أن تحولت الصورة النمطية في ذهن المواطن الفرنسي أو الأميركي أو الكندي عن المواطن العربي من صورة الصحراء والجمل إلى صورة الإرهابي.

 تتعدد الظروف والدوافع التي تدفع رواد مواسم الهجرة إلى الشمال، لكنها لا تغير فيما يترتب عليها من تغييرات في البنية السيكولوجية للمهاجر عندما يجد نفسه واقفا أمام شعور بالدونية أمام تفوق مارد غريب في مشهد أصبح يشكل الدافع المعاصر لتغييرات اسمية شتى يصبح معها اسم محمد " ميدو" أو " ماكس" وعبد الله أو عبد الرحمن " آبو"، بينما ينزع من كل اسم مزدوج يبدأ بعبد وينتهي بأحد اسماء الله الحسنى الجزء الثاني منه ليبقى جزأه الأول يحلق وحيداً.

أسماء منحت أصحابها ثقة لم يحافظوا عليها ليس لأنهم غير أوفياء لها، وإنما لأنهم وجدوا مبررات وجودها وتبنيها تبهت في قوارب الموت وتتكسر في كثافة الغابات الحدودية وجبالها الوعرة وتحت وقع الانتظار أمام مكاتب ضباط التحقيق في جغرافيات بعيدة ولغات غريبة.

Email