نكوص البراغماتية الروسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع تكاثر علامات الاستفهام حول الموقف الروسي من عملية التغيير السياسي في سوريا وحماية السلطة السياسية المتهاوية في دمشق، ظهر الكثير من التحليلات والتأويلات المتباينة حول ذهاب موسكو هذا المذهب، حتى عندما يتعلق الأمر بجوانب إنسانية صرفة، والقاسم المشترك الأعظم بينها جميعاً، يصب في محاولة موسكو الاستفادة من هذا الدعم السياسي، لخلق حالة من التعايش بين ركائز روسية ثلاث؛ جيوسياسية واقتصادية وسياسية.

وتزداد ضبابية وغرابة الموقف الروسي، في ظل محاولات دولية وعربية وسورية متكررة لطمأنة قيادة الكرملين على هذه الكتلة الثلاثية من المصالح الكبرى، علماً بأنه بات معروفاً أن كل ما هو مطلوب منها لا يخرج عن إطار التخلي عن حشر هذه الثلاثية في سلة رأس النظام السوري، ممثلاً بنظام الأسد، ووضعها في أيدي طيف أوسع ممن يمثلون الشعب السوري، أو بمعنى آخر نقل مجموع هذه المصالح إلى رحاب سوريا الدولة، بكل مكوناتها البشرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك ليس فقط ليتسنى لمسيرة الحل السياسي في سوريا أن تمضي لمسارها الطبيعي، بل حتى تتمكن الدولة الروسية من المحافظة على هذه المصالح على المديين المتوسط والطويل، وليس القصير فقط، فوضع كل البيض الروسي في السلة الأسدية، قضية خاسرة في نهاية المطاف.

من حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يسعى إلى تحقيق مصالح بلاده أينما كانت، طالما أنها لا تنتهك القانون الدولي، ولا تشكل عدواناً على أحد، لكن من حق الشعب السوري أيضاً أن يذكره بأن زمن الحكم الفردي والاتفاقات بين حكام أفراد قد ولى من غير رجعة، وحل محله مفهوم دولة مجموع المواطنين، كي لا نقول إن رؤية الرئيس الروسي للصراع على السلطة في سوريا، تبدو قاصرة، ولا تسمح له برؤية المشهد على حقيقته بالمعنى البراغماتي الواسع للكلمة، وأن ظلالاً قاتمة من الوهم تظلل هذه الرؤية القائمة على ربط مصالح بلاده بمصير نظام فئوي، مستعدياً بذلك شعباً بأكمله، وربما أمة ورأياً عاماً عالمياً بات يضيق ذرعاً بممارسات النظام السوري القمعية، والتي يرى الكثيرون أنها ترقى إلى مستوى الإبادة والعقاب الجماعيين، اللذين لا يضاهيهما إلا ما اقترفه الجيش الروسي من فظائع في غروزني والشيشان على سبيل المثال.

استطاعت قيادة الكرملين طوال فترة الصراع في سوريا، رسم مسار الأحداث وفق أجندتها حتى اللحظة، وتمكنت على ما يبدو من إقناع الإدارة الأميركية بضرورة إعادة تأهيل النظام السوري وتأمين تذكرة دخول له إلى النادي الدولي، على قاعدة أولوية محاربة ما يسمى الإرهاب على التغيير السياسي، معززة مسلكها هذا بخلفية إسرائيلية تقبع في عمق المشهد، وتحرص على بقاء حدودها مع سوريا آمنة.. لكنها تعمي عينيها عن المآلات الأخيرة للأحداث، ما سيعرضها لمزيد من الخسائر الجيوسياسية والسياسية والاقتصادية، وحتى الأخلاقية حول العالم.

Email