المنشار لا يخلع مسماراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

حرارة الغضبة الشعبية العربية لم تبرد بعد، على قلة الثلج الذي ذاب بفعلها، إلا أنه فضح الكثير من التخريب والسواد تحت بياضه، وإن كانت الغضبة قصدت وجه القمع المباشر والخشن الذي تمارسه نخب السياسة، وسواء نجحت في ذلك أم لا، فإنها مزقت ما لم تقصده من أقنعة تزييف ناعمة كانت ترتديها نخب أخرى.

أول هذه النخب المثقفون الذين طبع أكثرهم على جبينه منذ عقود شعارا سحريا لحل جميع ما استعصى من مشكلات، ينادي بضرورة إعادة الدور للمفكر بدل أن يتفرد به السياسي الذي علق المثقف على شماعته سبب كل فشل.

المفاجأة والصدمة من غضبة لم يمهد المثقف لها الأرضية، قد تكون سببا في حالة الفرار الجماعي للنخب المثقفة من مطالبتها بهذا الدور، ولكنه سبب هامشي ومؤقت كان لينتهي مع امتصاص الصدمة الأولى، لولا أن هناك سببا أكثر عمقا والتباسا.

فالمفكر والمثقف العربي، إذا تجاوزنا قضية وجود هذا المسمى على وجه الحقيقة، لا يريد من هذا الدور إلا التصنيف وما يحمله معه من مزايا، بعيدا عما يثيره من متاعب ومسؤوليات، أمر يؤكده ما وصل إليه البعض من تلميحات وتصريحات، وربما أيضا حد الموقف الفاعل، للحفاظ على النظم السائدة، التي حصل بوجودها المثقف على تصنيفه ومزاياه، بما في ذلك أصحاب الثقافة التي تحمل وسام «التاريخ النضالي الطويل في مناهضة النظم».

ولكن أكثر ما يسقطه ذلك من قناع، أن المثقف لم يكن حقيقة كفؤا لدور هذا عبئه الثقيل، وأن ما كان يحمله من ثقافة وتفكير لم يكن أكثر من ثقافة شكلية استعراضية جالبة للتصنيف، تحفظ نتاج ثقافات لمجتمعات أخرى تقدمت بفعل أسبابها، وتردده كالببغاوات، دون إمعان النظر حتى في المناهج التي أثمرت هذا النتاج.

غير أن الذين تجاوزوا ذلك في محاولة للظهور بمظهر الأكثر نضجا، من المثقفين وربما الأكاديميين، ونظروا في المناهج واستوردوها، كانوا أكثر أذى، عندما ابتعدوا عن حقيقة أن المشكلات تستدعي إبداع مناهج خاصة لحلها.. فاذا كانت المشكلة في خلع مسمار من الجدار ولم يتوفر في يدنا سوى منشار، لا يكون الحل في البحث عن قطعة خشب لنشرها، بل في البحث عن أداة لخلع المسمار، وهو أمر أدى بنا في النهاية إلى استيراد المشكلات التي تصلح لحلها تلك المناهج والأدوات، فأنتج هؤلاء أمراضا أكثر مما أثمروا علاجا.

أن يميط الغضب الشعبي اللثام عن وجه التخريب، لا يكفي حتى نسمي الغضبة ثورة، خصوصا أن الغالبية خرجت علينا لتقيس أداء ما بعد هذه الثورة، بالمقاييس والأدوات ذاتها.. فكيف تكون الثورة ثورة إن لم تبدع مناهجها الأصيلة ولم تكن قلبا للمسلمات!

Email