كان الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس وليد ليبيا، يبذل جهودا كبيرة لتحسين أوضاع الجيش وإصلاح نظام القضاء وتطويره، كما عمل على إزالة ودحر كل مساوئ وآثار الفتن الداخلية، وكان بإخلاصه يولي الولايات الرومانية كل العناية.
ووجه بإنشاء الكثير من المنشآت الخدمية والأبنية العامة. وحين اطلعت على سيرة هذا الإمبراطور أدركت أنه أحب روما حبا غير عادي، وأعاد لعرشها قوته وعظمته، وخلّص الإمبراطورية كما يقال من "تركة فساد متراكم من استبداد كاليغولا، وبلاهة كلوديس،
وجنون نيرون، وطغيان انطونيوس". كما أنه أعطى التجارة من الاهتمام الكثير، وكذلك الزراعة في وطنه (ليبيا)، وجعلها مركزا تجاريا مهما بين الشرق والغرب، وبين أواسط إفريقيا وسواحل البحر المتوسط.
وضِعَ تمثاله بشموخ في ساحة الشهداء أهم ساحات طرابلس العاصمة، والذي أمر بإنشائه الإيطاليون إبان استعمارهم لليبيا، ولكن القذافي الذي ظل طوال سني حكمه قابراً لليبيا وشعبها وعمل على ردم جميع قنوات الاتصال بالخارج، كان كارهاً لمثول هذا التمثال أمام مرأى الليبيين.
والذي طالما كان يشعره بأنه لسان حال المعارضة، فكان الليبيون يتراءى لهم أن سيبتيموس الشامخ حامل الشعلة، يلهج بالحزن في سكونه على حال مسقط رأسه من بعده، فيتساءل الليبيون: ترى ماذا يقول الإمبراطور اليوم؟!
"بعد أن كانت ليبيا مركزا متوسطيا ذا ثروة ثقافية واقتصادية مهولة، وأبعد ما تكون عن العزلة التي فرضها عليها القذافي عن عالم ما وراء البحار، كما كانت أيضا ملتقى للتجارة والفن والتطلعات الاجتماعية التي لا تعرف معنى للقمع"..
ما سبق جاء في مجلة ناشيونال جيوغرافيك، حين تناولت موضوع ليبيا بإعجاب يخالطه الكثير من الخوف والتأمل في أمس روما القمح والزيتون، وليبيا اليوم الحديثة الحرة.. ولكن القذافي ضاق بالتمثال ذرعا فقبره في صندوق خشبي يقبع وسط المهملات في غرفة خلفية، فأخرسه قبل أن يجيب على تساؤل الليبيين..!
ولكن ليست كل حماقاته سيئة على العموم، فهناك حماقة كانت من أجمل الأخطاء وأثمنها، حيث إن ليبيا بمساحتها التي تفوق مساحة إيطاليا بأضعاف، وبقلة عدد سكانها، كانت تعاني من قلة التوسع العمراني الذي كان من سياسات القذافي المضادة للتطور.
وهذا وفر حماية طبيعية للمواقع والكنوز الأثرية، بالإضافة إلى جهود الحراس المحليين التي أبقت على هذه الآثار مصانه أثناء القصف الجوي إبان الثورة، حيث تم إعداد قائمة بالمواقع الممنوعة من القصف وقدمت لمنظمة "بلو شيد"، التي بدورها قدمتها لحلف الناتو في شكل إحداثيات جغرافية لتفادي قصفها.
اليوم رحل وحش ليبيا الذي جاء على أخضرها ويابسها، وأصبح شعبها المتحمس برؤى جديدة منتعشا بأريج الحرية، يتأهب لإعادة إعمار تاريخ البلاد والبدء في كتابة مستقبلها.. فنشاهد عودة علم ليبيا القديم والذي كان إحدى المحرمات في عهد الغاشم.
والأسئلة تطرح نفسها هنا: هل ستعود ليبيا كما كانت في عهد الإمبراطور الروماني؟ وهل ستنافس كنوزها المندثرة تحت رمالها وإهمال الماضي، كنوزها النفطية ذات يوم؟!