المدينة المغبونة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مثل غيرها من مدن القناة، تضرب جذور سكان بورسعيد في أنحاء التراب المصري. أكثر من تلك المدائن، تتلون تركيبتها السكانية بجنسيات أجنبية. أكثر من كل مدن مصر، مثقلة بورسعيد بحمولة وطنية باهظة.

ربما لهذا تظل هذه المدينة مهجوسة بمشاعر الغبن والظلم، ويراود أهلها إحساس بالتهميش المتعمد. بورسعيد بمثابة قنطرة جغرافية عندها تتقاطع قارات إفريقيا، آسيا وأوروبا، بعد بروزها على خارطة حركة التجارة العالمية في 1859.

الموقع الفريد والقماشة السكانية الكوزمبوليتانية يمنح، مثل جميع مدن الساحل في الأقطار العميقة، مزاجاً إنسانياً خاصاً. الاسكندرية أنموذج مصري آخر. طابع الحياة في جدة مغاير للرياض. ثقافة هامبورغ متميزة عن برلين. إيقاع نيس ليس على زمن باريس.

هذا التنوع الذي أثرى القاعدة الثقافية الشعبية في المدينة، تجلى في مظهرها المعماري وحدائقها ومناسباتها، بدءاً من كرنفالها التراثي، حيث تضج أوسع شوارعها بفرق السمسمية والطنبورة، وانتهاء بمهرجان الأفلام التسجيلية.

صحيح، تهيأت لبورسعيد مقومات المدينة الحديثة في وقت مبكر، فنعمت مثلاً بسريان الكهرباء في جنباتها في العام 1891، أي بعد تسع سنوات فقط على إنارة نيويورك، لكن الصحيح كذلك أن موقع المدينة الجيوبوليتيكي حمَّل أهلها فاتورة معاناة فادحة.

موقع المدينة فرض على أهلها كلفة باهظة لم تدفعها مدينة مصرية أخرى. بورسعيد نهضت بدور وطني في بسالة نادرة، على نحو أسبغ عليها صيتاً تاريخياً يفوق سمعتها التجارية.

بورسعيد تصدت للغزاة متعددي الجنسيات، وفتحت صدرها للمقاومة الوطنية. أهل المدينة صبوا دماءهم زيتاً على الوقود الوطني في وجه الاحتلال البريطاني عند انعطافة القرن التاسع عشر. بورسعيد اشتعلت عقب إلغاء معاهدة 1936.

المدينة كتبت فصلاً زاهياً في التاريخ المصري، بصمود نادر في وجه العدوان الثلاثي الظالم رداً على قرار جمال عبد الناصر الجريء تأميم القناة. المدينة المصرية تحملت بثبات صبور حمم قوات بريطانيا، فرنسا وإسرائيل، حتى أسبغ عليها المصريون لقب المدينة الباسلة.

في حرب الأيام الستة وقف جنود إسرائيل على حافة المدينة، لكنها دفعت الكثير والغالي من مخزونها إبان حرب الاستنزاف. بورسعيد الباسلة أمست مدينة أشباح، إذ تعرض أهلوها للتهجير فانتشروا في مدن مصرية وفقاً للانتماءات والصلات. تلك مرحلة استنزفت أهل المدينة على نحو يفجر لديهم الغضب ويثير نحوهم التعاطف.

مع إعادة افتتاح القناة في العام 1975، بدأت الحياة تدب في بورسعيد مجدداً. السنة التالية أصدر السادات قراراً بتحويل المدينة إلى منطقة حرة. ذلك قرار فتح بورسعيد على الرخاء والازدهار، لكنه جعلها كذلك بؤرة جذب للمصريين من كل صوب.

حقبة الانتعاش لم تدم طويلاً، إذ تجشمت بورسعيد أعباء ممارسات المغامرين. لما عجزت السلطة المركزية عن تجفيف مسارب التهريب، فرضت على بورسعيد قيوداً أفقدتها ميزات المنطقة الحرة.

المدينة الباسلة تعرضت لعقوبة قاسية بعدما تعرض حسني مبارك إلى «محاولة اغتيال» فيها. لكل ذلك تشعر بورسعيد أنها دفعت ضريبة وطنية مكلفة من دون الفوز بمقابل.

على نقيض ذلك، هي مثقلة بحمولات التهميش ومسكونة بهواجس الاستهداف أحياناً، لذلك تصبح دوماً بؤرة قابلة للالتهاب عندما يمس عصبها الجمعي إصبع من قبل النظام، بغض النظر عن هويته. بالمشاعر ذاتها تنظر المدينة المغبونة إلى تراجيديا كرة القدم وفصولها.

Email