مع أن الطعنة التي تلقاها قلب مصر بالهجوم على كنيسة القديسين ليلة رأس السنة، طعنة نجلاء، إلا أن الملف سيتم طيه في أغلب الظن على الجروح القديمة.. وسيكون المشهد الختامي إعلان التوصل إلى اليد الآثمة التي خططت ونفذت، لتنتظر مصر انفجار قنبلة أخرى في مكان آخر. لم يلتفت أحد إلى مغزى أن يثير الهجوم كل هذا الصخب، ليس لخسته ودمويته وإيقاعه عددا كبيرا من الضحايا، وإنما لأنه استهدف كنيسة للأقباط، بما يعني أن هناك طائفية محسوسة في التفكير على كل المستويات؛ على مستوى الجماعة القبطية، والناشطين السياسيين، وأجهزة الدولة... بل امتد ليشمل بسطاء الناس.. ليس ذلك ادعاء ولا قفزا على الحقيقة، بل لأن هناك أوجاعا مزمنة لم يعد هناك مجال لتأجيلها.
مصر منذ زمن لم تعد تحل مشاكلها، بل تكتفي بالمسكنات والعلاجات الموضعية، ذلك أن هناك خللا واضحا في ترتيب الأولويات، وقصورا جليا في الرؤى.. فالنيل والأقباط كانا على الدوام هما المهمتان الرئيستان لأي حاكم في تاريخ مصر، من عهد مينا وحتى اليوم.. ذلك أن النيل هو شريان الحياة الوحيد للبلاد، والأقباط علامة عافية بنيتها وسلامة نسيجها الاجتماعي.. وحدوث أي خلل في أي منهما، يعني أن الدولة المصرية تواجه اختبار حياة.
بعض الأقباط من جانبهم، يمعنون هذه المرة في إكساب الحدث صفة طائفية، يريدون بها حل مشكلات خاصة مزمنة.. فرفع الصليب يخيم على تظاهرات الاحتجاج.. والبابا شنودة يحذر الشباب القبطي من المندسين.. ولأن التظاهرات لم يتخللها عنف حقيقي، وإنما احتكاكات طفيفة مع الأمن، شأنها شأن غيرها من التظاهرات، فإنه لا مقصود بالمندسين هنا غير حركات الاحتجاج السياسي الغاضبة، من «كفاية» إلى «6 إبريل» إلى «9 مارس»، وغيرها من الفعاليات التي رأت أن الشأن القبطي شأن جميع المصريين بامتياز.. وأن التسامح الأمني مع تظاهرات القبط، يمثل فرصة للخروج وتفريغ شحنات الغضب المكبوتة في الصدور.
التصريح البابوي، رغم أنه يبدو ميّلاً للتهدئة وتناغما مع ما تريده الدولة، إلا أنه يمثل جانبا آخر من جوانب انسحاب الأقباط من الحياة السياسية.. وهو ما أضر كثيرا، كونه عزل الأقباط عن نسيج المجتمع وجعل لهم خصوصية.. وجعل مطالبهم «كوتة» متمايزة عن المطالب الاجتماعية والسياسية العامة.
على حد تقديري، فإن تمصير المشكلة وإكسابها صفة العمومية سلوك أجدى وأنفع.. والحراسات التي أحاطت بالكنائس نتاج قرار طفولي ووعي قاصر.. ذلك أن الكنائس في السياق العام لحياة المصريين، ليست مهددة، بل السيناريو الدراماتيكي المرعب الآن هو قنبلة في مسجد.. وهو ما أشار إليه عدد من الكتّاب المصريين.. لكن السلطة تصر على تحويل كل شيء إلى ملف أمني..
لا يمكن لأحد استباق نتيجة التحقيقات، كما أن جهات التحقيق لا تجد شهودا يروون لحظة الانفجار وكيفية حدوثه، لكن العنف في مصر الذي تبدى على أفظع ما يكون في سنوات التسعينات من القرن الماضي، لم يكن يضع دور العبادة المسيحية على قوائم أهدافه، فما بالنا وقد تفككت الآن الجماعات العنيفة وتاب قادتها! سيقول قائل؛ ماذا عن القاعدة؟ في ما هو معلوم لا وجود للقاعدة على الإطلاق في مصر.. اللهم إلا لو كانت قاعدة على طراز أبو مصعب الزرقاوي، تخلط غاياتها بغايات الموساد. تفسير ما جرى وعلاجه، يحتاج انتفاضة وعي في مصر من كل الأطراف، وعلى رأسها الدولة.. ذلك أن الانفجار لو استهدف محطة للسكك الحديدية أو مصنعا أو سوقا، لم يكن ليحدث هذا الصدى.. وحين ينظر للانفجار على أنه انفجار وحسب، أيا كان المكان الذي يستهدفه، حينئذ يمكن أن تقول السلطة بملء فيها.. لا مشاكل للأقباط. أما التعامل الحالي مع ما جرى، فيشبه تعامل طبيب متخبط لا يعرف الدواء، لذلك يمكن أن يفاقم جراحات مريضه.