بينما يغط العالم العربي في سبات عميق، يخرج نمر اقتصادي وسياسي جديد في المنطقة ليغير من توازن القوى الذي ظل سائدا لنحو نصف قرن. لم ينهض النمر الجديد من بين نيران تزوير الانتخابات ومصادرة الأوطان وقهر الحريات.. وإنما كان وقوده حرية اختيار، وحكم رشيد يتجاوز بطموحاته ما كان مقدرا.. ويقهر الصعاب، ومعها التصور النمطي الذي يقوم على فرضية أن دول العالم الإسلامي ليست لديها القدرة على النهوض.
الحكم الرشيد مفهوم مستحدث، يعود في جذوره إلى ثمانينات القرن العشرين، وجوهره نزع القداسة عن السلطة ونقلها للمجتمع والأفراد، وهذا بالضبط ما فعله حزب العدالة والتنمية التركي، الذي استند إلى تأييد جماهيري في تكسير الأصنام، منذ صعوده إلى سدة السلطة عام 2002 وحتى اليوم.
على غير العادة، شاء حظ تركيا ألا يكون الحزب وقادته مجرد ظاهرة إعلامية، أو هيكل نضالي أجوف تزول قشرته بمجرد استلام زمام الحكم، كما حدث في غير بلد عربي على امتداد الستين عاما الماضية، بل توجه سياسي له جذوره الضاربة في عمق المجتمع التركي، وبرنامج شرع في تنفيذه منذ اليوم الأول، فآتت الشجرة أكلها على خير وجه.
خلال محاضرة ألقاها الدكتور أمر الله ايشلر كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي، في دبي الأسبوع الماضي، استند الرجل إلى الأرقام، وهي خير برهان على التجربة.. فالاقتصاد التركي تحول من اقتصاد ضعيف واهن، إلى المرتبة السابعة عشرة عالميا والسادسة أوروبيا، كما تضاعف الدخل القومي إلى 618 مليار دولار، قفزا من 220 مليارا قبل سبع سنوات، ومعه دخل الفرد من 3500 دولار إلى 8590 دولارا، وانخفضت الديون لصندوق النقد من 23,5 ملياراً إلى 6,8 مليارات، وأزيلت ستة أصفار من الليرة، وارتفعت الصادرات من 36 مليار دولار إلى 102 مليار، وأصبحت شركات المقاولات التركية هي الثانية عالميا، بحجم أعمال يصل إلى 23 مليار دولار في العام، وحقق الاقتصاد التركي متوسط نسبة نمو 6,1 سنويا.
هناك أيضاً مكاسب سياسية ضخمة على المستوى الداخلي، لم يعد حصنا العلمانية (الجيش والقضاء) قادرين على الاستبداد بالمجتمع التركي، بدعوى حراسة مبادئ أتاتورك، بل انتقلت السطوة الحقيقية إلى الناخب التركي، الذي استعاد صوته الذي عصفت به المؤسستان طيلة 70 عاما، وعلى المستوى الخارجي تحولت تركيا من تابع للسياسات الغربية، إلى فاعل إقليمي ودولي يحسب حسابه، حتى ان البعض أبدى مخاوفه من ظهور النزعة العثمانية مرة أخرى، ولكن بمفاهيم أخرى وأدوات مغايرة تناسب القرن الواحد والعشرين.
الرابح الأول بالطبع هو المواطن التركي الذي بات يعيش تحسنا ملحوظا في أحواله المعيشية، وثاني الرابحين هو الجوار، فتركيا الأنياب والأظافر لم تعد موجودة، حل محلها الحوار والتعاون، والإيمان بأنه لا توجد مشكلة على الأرض ليست لها حلول.
هذه القوة التي تحسها الحكومة التركية، هي ما جعلها تقف موقفا صلبا في مواجهة إسرائيل بعد القرصنة ضد السفينة «مرمرة»، وهي التي جعلتها ترفض عبور القوات الغازية للعراق قبل هذا التاريخ بسبع سنوات. هي أيضاً التي حولت تركيا إلى مجتمع مفعم بالأمل والتحدي، وهكذا تقاد الأوطان.
في عالمنا العربي مجتمعات ليست مكبلة بما كانت تركيا ترزح تحته، وحالها الاقتصادي أفضل كثيراً، وحباها الله بثروات أكثر، ويمكن أن تحقق ازدهارا كبيرا وتحسن من حياة مواطنيها، وتجعل آمالهم داخل الحدود وليس خارجها، لكنها مبتلاة بنخب حاكمة تعتبر نفسها الدولة (على نحو ما تصور لويس السادس عشر)، والمعبر عن الشعب رغم أنفه، ولأن تغيير الحاكم لم يعد مطروحا، طرح البعض على سبيل السخرية فكرة تغيير الشعب!