السفَر الخامس

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يعرف قيمة الطفل أو الطفلة في البيت، إلا أحد اثنين، أولهما من لم يرزقه الله بأطفال، وثانيهما الذي سافر طفله أو طفلته، على جناح القدر ذات ميقات.

ما من حزن يفيض مثل نهر من عيني الرجل أو المرأة مثل ذاك الحزن، إذ يفقد ابنه أو ابنته، فهذا فقدان معاند لسنة الحياة، والإنسان قد يفقد والده أو والدته، وقد يدفنهما، غير أن فقدان الابن أو الابنة، استثناء.

الحياة رحلة بدأت منذ الأزل، إذ أشهد الله ذرية آدم على التوحيد، والثانية حين تنقل «الاسم المكنون» في عالم الغيب عبر آلاف السنين من صلب إلى صلب، فحمى الله سلاسل الذرية لأجل إطلالته، والثالثة حين صار جنينا، والرابعة الحياة الدنيا، والخامسة عند الموت، والسادسة عند الحساب، والسابعة دار الحسم والقرار.. سبع مراحل، مثلما السماوات سبع، والأرضين سبع.

ولأننا على لقاء، وإن طال السفر، قد يسبقنا البعض في سفره الخامس.. يستعجل. ربما لأن سماويته الكامنة سراً أعلى من أرضيته الظاهرة جهاراً، وربما لأنه باب الجنة لوالديه، فهي الدنيا إذن بأحكامها غير المفهومة لنا، على ذات نسق خرْق الخضر للسفينة.

لكن الذين يرحلون لا يغيبون، أطيافهم تبقى، تزور أولئك الذين يفتقدونهم، تكاد أن تنطق ألسنتهم ليبشروهم بمآلاتهم، وليمسحوا الغبار عن أردية الأمهات، والتعب عن وجوه الآباء، والحزن النبيل عن جباه الأشقاء والشقيقات، وفي مرات تكون أرواحهم ماء الوضوء المسكوب على القلوب، وسقيا الصيف والشتاء.

بعضنا استعجل السفر إلى الخامسة، ولا بأس من الدمع هنا، دواء، أو قل دمع يغسل الروح كما غسل الكعبة، وعلينا أن نتذكر أن الراحلين والراحلات، ما كانوا يقبلون لنا أبدا في حياتنا، انحناءة روح ولا انكسارة بحار، ولا يرضون لدمعنا العذب أن يصير مالحاً أيضاً.

Email