إعادة بناء أمريكا وعالم ما بعد ترامب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُمهد تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، لحدوث تغيير هائل نحو الأحسن في الولايات المتحدة. وقد يكون أيضاً فرصة فريدة لتعزيز الديمقراطية الليبرالية في جميع أنحاء العالم.

ولا يتقاسم العديد هذا الرأي المتفائل بشأن الآفاق العالمية للديمقراطية الليبرالية، نظراً للصعود الأخير للحكومات الشعبوية غير الليبرالية في مختلف أنحاء العالم. فقد سعت هذه الحكومات إلى إزالة مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، وإلى حرمان المعارضين السياسيين من العمل بحرية. ويجادل الكثيرون بأنه لأسباب تتعدى ما له علاقة بدونالد ترامب، ستظل الديمقراطية الليبرالية في تراجع.

وفضلاً عن ذلك، يمكن القول إن الاقتحام الأخير لمبنى الكابيتول من قبل حشد مسلح بتحريض من ترامب، قد قوض قدرة أمريكا على أن تكون قدوة يُحتذى بها. وعلى أي حال، واصل معظم أعضاء الحزب الجمهوري تقريباً دعمه لترامب على الرغم من سلوكه الذي يزيد اضطراباً ومعاداةً للديمقراطية.

ولكن الوضع تغير بسرعة بعد حادث التمرد الذي وقع في مبنى الكابيتول. إذ شجبت غالبية كبيرة من الناخبين الأمريكيين العنف، ودعمت الانتقال السلمي للسلطة. وعلى الرغم من أن %73 من الناخبين الجمهوريين ما زالوا يعتقدون أن ترامب يحمي الديمقراطية، إلا أن معدلات تأييده تراجعت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق بعد أعمال الشغب.

كما أن ترامب فقد بعض دعم الكونغرس من الحزب الجمهوري. ففي 13 يناير، انضم عشرة من الجمهوريين في مجلس النواب إلى الديمقراطيين في التصويت لعزل ترامب للمرة الثانية، بتهمة «التحريض على العصيان». وسيواجه ترامب محاكمته في مجلس الشيوخ مع حرص زعيم الأغلبية الحالي، ميتش ماكونيل، حسبما ورد، على تخليص الحزب الجمهوري منه.

وستعتمد الكثير من القرارات على ما إذا كان المسؤولون عن عملية محاولة الانقلاب التي حدثت في 6 يناير سيحاسبون، والطريقة التي سيتم بها ذلك.

ولكن نوبة ترامب الأخيرة العنيفة قد تؤدي في النهاية إلى تراجع الاستقطاب، وتعزيز المؤسسات الديمقراطية الأمريكية، خاصة إذا كان جزء كبير من الناخبين سيؤيد الإجراءات السريعة لمحاربة الظلم العنصري، بما في ذلك تعزيز حقوق التصويت.

ولكن إرث ترامب ليس العقبة الوحيدة التي يجب على بايدن التغلب عليها لتقديم الولايات المتحدة على أنها قائد عالمي قوي للديمقراطية الليبرالية.

ورغم أن الكثيرين يقولون إن أمريكا دعمت الديمقراطية لعقود قبل انتخاب ترامب في عام 2016، إلا أنه كثيراً ما دعمت الولايات المتحدة حكومات استبدادية، وأطاحت بحكومات منتخبة، والسبب راجع إلى حد ما إلى سعيها لمواجهة الاتحاد السوفيتي السابق، وأيضاً لتحقيق مصالحها الاقتصادية.

فعلى سبيل المثال، أطاحت الولايات المتحدة بحكومة إيران الديمقراطية في الخمسينيات من القرن العشرين، وسهلت الانقلاب العسكري عام 1973 ضد الرئيس التشيلي، سلفادور أليندي، وأعمال مماثلة في أمريكا الوسطى، ومنطقة البحر الكاريبي، ولا تزال تدعم الأنظمة الشمولية في بعض البلدان. وعلى الرغم من ادعاءات أمريكا، فهي بالكاد تحلت بالصدق الذي كانت تعززه في دعمها للديمقراطية الليبرالية بعد الحرب.

ولدى الإدارة الجديدة بقيادة بايدن ونائب الرئيس، كامالا هاريس، فرصة فريدة لاعتماد سياسة أكثر اتساقاً ومصداقية في السنوات القادمة. إن المناصرة الفعالة للديمقراطية الليبرالية لا تحتاج إلى التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولا ينبغي أن تنطوي على ذلك.

وقد تتطلب بعض التهديدات الحقيقية للأمن القومي- بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل أو الإرهاب المدعوم من الخارج، على سبيل المثال - التدخل الخارجي. ولكن التدخل لإحداث تغيير في النظام، حتى لو كان ذلك للمساعدة في تثبيت الديمقراطية، يجب ألا يكون هدفاً في حد ذاته، لأن النظام الذي يقيمه التدخل الخارجي دائماً ما سيواجه مشكلة كبيرة في اكتساب الشرعية.

وأشار جوزيف ناي من جامعة هارفارد مؤخراً، إلى أنه لن تكون خيارات بايدن السياسية واضحة تماماً. ولا ينبغي وصف البرامج الإذاعية الأمريكية التي تدعم الديمقراطية بالتدخل الأجنبي، ولا شك أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي قد خلق أموراً جديدة تتسم بقلة الوضوح. فقد لا يكون من السهل دائماً رسم الخط الفاصل بين تضخيم الآراء المناهضة للاستبداد والتحريض على تغيير النظام.

وعلاوة على ذلك، سيحتاج العالم إلى أنواع جديدة من مفاهيم «الحد من التسلح» حيث تسَلح التقنيات الجديدة، ويصبح الفصل بين الأهداف الأمنية والاقتصادية أكثر صعوبة.

ومع ذلك يجب على إدارة بايدن هاريس أن تصبو عالياً. أولاً، يجب أن يكون لها أجندة محلية شاملة تعطي الأولوية للعدالة والديمقراطية، وتزيل أخيراً «الخطيئة الأصلية» الأمريكية المتمثلة في أيديولوجية تفوق البيض، مما سيمكن الولايات المتحدة من أن تكون حقاً قدوة يُحتذى بها.

ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تدافع جهاراً عن الديمقراطية الليبرالية باعتبارها نظام الحكم الذي يمكنه تحقيق التطلعات الإنسانية العالمية على أفضل وجه. ويجب أن تنتقل تدريجياً إلى نظام تحالفات يكون فيه جميع الحلفاء الذين تلتزم أمريكا بحمايتهم عسكرياً (بما في ذلك في الفضاء الإلكتروني) أنظمة ديمقراطية.

ويجب على بايدن اتباع استراتيجيه أساسية لاحترام السيادة الوطنية لجميع الدول، باستثناء الحالات التي تتطلب فيها مسؤولية حماية مجموعة من الفظائع الجماعية تدخل المجتمع الدولي. وعندما يتعذر على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التوصل إلى قرار، بسبب استخدام حق النقض من قبل أحد أعضائه الدائمين، فإن اتباع نهج يعتمد على كل حالة على حدة في استخدام التدخل المسلح أمر لا مفر منه.

وتحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع جميع الدول الراغبة في ذلك، بغض النظر عن أنظمتها السياسية، في السعي لتحقيق أهداف مشتركة مثل الحد من خطر تغير المناخ وتوفير المنافع العامة العالمية، بما في ذلك الوقاية من الأوبئة. والمهمة الأخرى ذات الأولوية الكبرى هي تطوير معايير وقواعد تحكُم الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية.

وربما حالت معاهدات الحد من الأسلحة في الحرب الباردة دون نشوب الحرب النووية العالمية - ولا تزال ضرورية.

وعلى مدى عقود، افتقرت الولايات المتحدة إلى استراتيجيه شاملة ذات مصداقية كاملة وقابلة للتنفيذ لدعم الديمقراطية الليبرالية. ويجب أن تحاول إدارة بايدن وضعها الآن. وعلى العموم، يجب أن تدرك أن مواجهة العديد من التحديات القديمة والجديدة تتطلب إحياء التعددية ـ ومن ثم، المؤسسات الدولية الفعالة التي تدعمها الولايات المتحدة.

ولا شك أن بعض الأمور لن تكون واضحة، لكن تصور أن نوايا أمريكا صادقة سيأخذ إدارة بايدن بعيداً. ولا يزال لدى الولايات المتحدة الكثير من القوة الناعمة - على الرغم من أن ترامب بذل أقصى ما في جهده لتدميرها. ويتمتع بايدن وهاريس بالعقلية الأساسية الصحيحة لتوفير قيادة ديمقراطية ليبرالية عالمية. لذا، يجب ألا يضيعا الفرصة.

* مسؤول عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويشغل حالياً منصب زميل أول في معهد بروكينغز.

 

Email