هامة المجد.. عندما يسطّر الشعر الملاحم 2 - 4

ت + ت - الحجم الطبيعي

يستمر الشعر الجزل الحكيم في إثراء الساحة الأدبية وتغذية العقول بالحكمة، ونشر البهجة بين محبي الشعر الذي عُرف العرب بعشقه منذ بداياتهم على الأرض، ولم يكن لأذُنٍ عربيةٍ أن تستمع إلى الشعر الجميل وهو يُنشد فتصدَّ عنه أو أن تنشغل بشيءٍ غيره حتى ينتهي الإنشاد، فيثير سحره مشاعر مخفيةً وتلامس مواضع في أنفسنا لم نكن لنصل إليها من دونه.

هذا ما أجده في نفسي وعند أهلي ومن أعرفهم من أبناء العروبة، لأنّ الشعر يجري فينا كما يجري الدم في مجاريه من أبداننا، فكيف إن كانت القصيدة لشاعرٍ قائدٍ لا نعرف له مثيلاً في الرؤية والإنجاز والجدّ والعمل والرقيّ بالأوطان.

وهو مع هذا كله متفنن في أنواع البيان والبلاغة، وينشدُ ما لا يمكن أن يتوقعه أحد، إلا رجلاً بلغ منزلته من الخبرة والحكمة وممارسة القيادة ومعاملة الخلق والصبر عليهم وتقدير الناس وحبه لهم وسهره على راحتهم وفرحه بأفراحهم ولا يحمل إلا مكارم الأخلاق ولا يريد من الدنيا إلا سعادة شعبه وأمته العربية والإسلامية، هذا هو سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله، الذي أبهجنا بقصيدةٍ رائعةٍ مبهجة في مدح أخيه سيدي سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وقد ذكره بأوصافٍ لم يبالغ فيها، بل هي حقيقة الشيخ الكريم نفسها، الطيّب النادر حفظه الله وأيّده بتوفيقه وسأذكرها مع شرحها في ما يأتي.

بعد براعة الاستهلال في البيت الأول من قصيدة «هامة المجد»، وقد ذكر الشاعر الشيخ محمد بن راشد دولة الكويت وحاكمها باسمه كاملاً، وشعبها، ودعا لهم وبيّن منزلتهم في قلبه وهو المحب للكويت وأهلها، وهذه المعاني لو تأملتموها يصعب على الشاعر غير المتمكن جداً أن يجمعها في بيتٍ واحدٍ.

ولكنّ الشاعر القدير يستطيع أن يكوّن أبياته كيف يشاء ولا يمنعه من ذلك مانع كفعل امرئ القيس في معلقته، فإنه في أول شطرٍ منها وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الأحبة والمنزل، وهنا تكمن قوة الشعر الذي يسحر الألباب ويجبرك على الإنصات، كما فعل الشيخ محمد في أول شطر، فقد جعلنا نقرأ بشغفٍ البيت التالي الذي يقول فيه:

ومن بعد هذا يا ذاكر مجدنا ذاكرْ

من سيرة المجد ما تُروى للأجيالِ

نحن هلِ العز في الحاضر وفي الغابرْ

لنا على النّاس دام النّاس لافضالِ

بلادنا بالرّخا ميدانها عامرْ

وشعبنا بالسخا يشرب من الحالي

يشير الشيخ محمد إلى الحقيقة التاريخية وهي حقيقة سيرة المجد سيرة الباني المؤسس المغفور له الشيخ «زايد»، فسيرته لا يُمكن لأحدٍ أن يُنكرها أو يجحدها أو يقلّل منها، بل لا يزال الناس في ذكرها وسيظلون إلى ما شاء الله، وأيضاً يشير إلى حقيقةٍ أخرى وهي أنّ الشعب الإماراتي كريم سخي ومنيع وعزيز.

وهو تمهيدٌ عجيبٌ للقصيدة ولما يريده منها الشيخ محمد من إرساله الرسائل الموجهة للمحبين، بأنّ لهم الحب والكرامة والتقدير، وللحاقدين بأن ليس لهم إلا حد السيف وهذا مسطر في تاريخنا الماضي والحديث، ثم ذكّر المستمعين بسيرة المجد سيرة «زايد الخير» الذي شمل شعبه وأمته بالفضل والخير، ووقف معهم في أصعب الظروف وأخطرها، وكان قد خصّه بقصيدة منذ سنواتٍ في حياته بهذا الاسم، عند فوز «زايد» رحمه الله بالشخصية الإسلامية فقال:

ويا سيرة المجد ما تبغين عنواني

يكفيك «زايد» عن كبار العناويني

وأقول لكم أيها الأعزاء شعر الشيخ محمد بن راشد عميق جداً، علينا أن نتأمله عدة مرات ونغوص في أعماقه، وإنّ الغوص فيه ليس بالأمر السهل، ولكنّه السهل الممتنع، كلما قرأته أشعر ببهجةٍ، لأني أستمع إلى شعر حاكمٍ مجددٍ في الأوطان والسياسة والاقتصاد، وأيضاً في معاني الشعر وأساليبه.

بعد أن وضع الشاعر الحكيم القواعد الأساسية والمقدمات للقصيدة وقد وصل فحواها لكلِّ صاحب فهم وعقل، بدأ في الرسالة الأولى الموجهة التي هي حقيقةٌ أيضاً مثل حقيقة سيرة المجد وحقيقة شعب الإمارات الكريم الوفي المخلص فقال:

وما خلّف المجد «زايد» واستوى داثرْ

خلّف وراه الرجال الصيد الابطالِ

خلّف (خليفة) يكمّل مجده الزاهرْ

وخلّف (محمد) وقدره عندنا عالي

هنا تصحُّ المقدمة الأولى والثانية لتكون النتيجة صحيحة، وهي إذا كان المجد هو زايد وسيرته العطرة وأفضاله لا تُنكر وشعب الإمارات شعبٌ حرٌّ منيعٌ وعزيزٌ ومنصورٌ، فإنّه لا يمكن أن يرحل «المجد زايد» ويتركه يضيع من بعده أو أن يسلّم القيادة إلا لمن يراه كفئاً لحمل الأمانة، فاختار خليفته الشيخ (خليفة) لإكمال مسيرة المجد وجعل ولي عهده الشيخ محمد بن زايد الذي قدره عند الشيخ محمد بن راشد وباقي الحكام عالٍ وكبيرٌ..

هذا وللمقال بقية.

Email