النقاب في الأدب العربي 3 - 3

ت + ت - الحجم الطبيعي

النقاب منذ الجاهلية حتى يومنا وإلى ما شاء الله أن يبقى، لا يستطيع أحد أن يلغي تاريخه القديم أو أن يقلل من حرص العربيات الكريمات عليه في كثير من الوطن العربي، وخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي التي عرفته منذ آلاف السنين، بل تجاوز الأمر إلى جميع البلاد التي يوجد فيها مسلمون، فهو حقيقة واقعة لا يمكن أن نتجاوزها في آدابنا العربية وعاداتنا، وبراقع النساء القديمة في دولتنا هي شكل من أشكال النقاب، وعلى التفصيل الذي ذكرته لكم في المقال الأول عن «النقاب في الأدب العربي» قد يكون من الوصوصة التي تصل إلى العيون.

 المقامة البغدادية

نسمع كثيراً عن تخفّي بعض المجرمين بلباس الشرطة ليسهل عليهم أمر جريمتهم، أو أن يلبس أحدهم أي لباس رسمي لكيلا ينكشف ويقبض عليه، وهناك من يلبس لباس النساء ليفعل ما يريد من إجرام من غير أن يشك فيه أحد، وكذلك يفعل بعضهنّ إذ يتخفين بزيِّ الرجال أو يلبسن النقاب لنفس السبب - أعاذنا الله من شرورهم - وكلما سمعت هذه القصص ذكرت المقامة البغدادية من مقامات أبي محمد الحريري (516هـ)، مما يدلك على أنّ هذه الأمور ليست جديدة على المسلمين بل هي قديمة قدم النقاب نفسه، حيث يروي عن عجوز ذات فصاحة تشد انتباه الناس وتسترق قلوبهم لتأخذ أموالهم، ثم قال الحريري عنها على لسان الحارث بن همام: ونهضْتُ أقْفو أثرَ العَجوزِ، حتى انتهَتْ إلى سوقٍ مُغتَصّةٍ بالأنام، مُختصّةٍ بالزّحامِ فانغَمَسَتْ في الغُمارِ (الزحام) وامّلَسَتْ منَ الصّبْيَةِ الأغْمار (الصغار)، ثمّ عاجَتْ بخُلُوّ بال إلى مسجِدٍ خالٍ فأماطَتِ الجِلْبابَ ونضَتِ (ألقت) النّقابَ، وأنا ألمَحُها منْ خَصاصِ البابِ وأرقُبُ ما ستُبْدي منَ العُجابِ، فلمّا انسرَتْ أُهبَةُ الخفَرِ رأيتُ مُحَيّا أبي زيدٍ (السروجي) قد سفَرَ (ظهر) فهمَمْتُ أن أهْجُمَ عليْهِ لأعنّفَهُ على ما أجْرى إليْهِ فاسْلَنْقَى (استلقى) اسلِنْقاءَ المتمرّدينَ، ثمّ رفَعَ عَقيرةَ المغرّدينَ، واندفَعَ يُنشِدُ:

يا لَــيتَ شِـــعـــري أدَهْـــري      أحـــاطَ عِـــلْـــمـــاً بـــقَـــدْري

وهــلْ دَرَى كُـــنْـــهَ غـــوْري      في الخَدْع أم ليس يدْري

كـــــمْ قــــــــــدْ قـــمَـــــرْتُ          بَـنـــيهِ بحـــيلَـــتي وبـــمَــكْري

وكـــمْ بـــــرزَتْ بــــعُـــــرْف      علـيهِــمِ وبِـــــــنُـــــــكْـــــــرِ

أصْــطـــادُ قـــوْمـــاً بـــوَعْـــظٍ      وآخــرينَ بـــــــشِـــــــعْـــــــــرِ
 
وأســـــــتــفِـــــــزُّ بـــــــخَــــلٍّ        عقْـلاً وعَـــقْـــلاً بـــخَـــمْـــرِ

وتـــــــارَةً أنـــــــا صـــــــخْـــرٌ      وتـــارَةً أُخـــتُ صـــــخْـــــــرِ

 ولـــوْ ســـلَـــكْـــتُ سَــــبــــيلا       مألـــوفَةً طـــولَ عُـــمـــري

لَخـابَ قِــدْحـــي وقَـــدْحـــي       ودامَ عُــسْـــري وخُـــسْـــري

فقُـــلْ لـــــمَـــــــنْ لامَ هـــــــذا       عُذري فـــدونَـــكَ عُــــــذري


قلتُ: هكذا أهل الحيلة والمكر والسرقات والجرائم في كل عصرٍ، يستخفون بلباس الأخيار والحرائر الكريمات لتنطلي على الناس حيلهم، ولا يمكن منع ذلك ما دام الشر في البشرية حياً حتى قيام الساعة.

الأعرابي وحماراه

إن مدح النقاب كثير من الشعراء، كما ذكرت في المقالين الأول والثاني، ولكن من الإنصاف أن نذكر أنّ هناك من الشعراء من ذمّه لأنه يخفي ما قد يفاجئ بعض الحالمين بجمال هذه وتلك. ومن القصص الطريفة المشهورة التي وردت في أمثال العرب، وقد رواها أحمد بن محمد الميداني (ت: 518هـ) في مجمع أمثاله، يقول: إنّ رجلاً خرج يطلب حمارين ضلا له فرأى امرأة متنقبة فأعجبته حتى نسي الحمارين، فلم يزل يطلب إليها حتى سفرت له (أظهرت وجهها)، فإذا هي فوهاء (واسعة الفم)، فحين رأى أسنانها ذكر الحمارين فقال: ذكّرني فوك (فمك) حماري أهلي، وأنشأ يقول:

ليت النقابَ على النساءِ محرمٌّ         كيلا تغُـرَّ قـــبـــيحةٌ إنـــسـانا

قلتُ: ليت الشاعر رأى ما تفعله الشركات العالمية لتزيين النساء في هذه الأزمان، كيف تدخل النساء بشكلٍ وتخرجهنّ بعد الأصباغ و«كريمات الأساس» بشكل مختلفٍ تماماً، حتى إذا زالت عنهنّ عُدنَ كما كنّ منقبات أو غير منقبات، وما أجمل البقاء على الطبيعة والأخلاق الحسنة والحرص على العادات الجميلة.








   

 

 

Email