لا نستطيع معرفة حقيقة أي خبرٍ من أخبار المسافرين التي يروونها لنا عن البلاد التي يزورنها بعد عودتهم من أسفارهم لأننا لم نشاهدها وليس من رأى كمن سمع كما يُقال، وقد نستعظم بعض هذه الأخبار ونحدّث أنفسنا، أهذا من الصدق أم من مبالغاتهم، خاصةً إذا عوّدنا المُخبر على المبالغات التي درج عليها كثير من جوّابي الآفاق.

ولكنّ المبالغة تنتفي إذا تحدثنا عن مدينةٍ عريقةٍ ليس لها مثيل في العالم مع صغر عُمُرها التاريخي مقارنةً «بباريس» و «لندن» و «روما»، وذلك بسبب مساحتها المسكونة وتجمهر السكان فيها بشكلٍ عجيبٍ جعلتهم يتميّزون بطباعهم وعاداتهم وتنظيمهم الغريب، هذه أيها الأعزاء هي مدينة «طوكيو» عاصمة اليابان التي خرجت من الرماد منتصرةً لتصبح من أعظم مدن العالم.

ليس لمدينة «طوكيو» تاريخ بعيد فقد وُجدت في سنة 1590م وكانت تسمّى «إيدو» في عهد الحكام العسكريين (الشوجون) الذين انتقلوا إليها بالمال والسلطة من «كيوتو» العاصمة القديمة والتي يقطنها الإمبراطور، وقد تم عزل المدينة تماما عن الغرباء لأكثر من قرنين عن طريق المحاربين (الساموراي) ولا يسمح لغيرهم أن يحمل السلاح فيها، فتشكلت طبيعة الناس فيها بشكلٍ مختلف.

ثم في سنة 1867 قضى الإمبراطور (ميجي) على (الشوجون) وانتقل من «كيوتو» إلى «إيدو» وقام بتسميتها «طوكيو» والتي تعني العاصمة الشرقية وهي كلمة صينية الأصل فإنّ (تو) تعني الشرق و(كيو) تعني العاصمة.

قاد الإمبراطور (ميجي) اليابان، وهو الحاكم 122 من أباطرة اليابان الذين توارثوا الحكم لمدة طويلة تصل إلى ألفي سنة وقد فقدوا السلطة الفعلية بعض المرات خاصة في حكم (الشوجون) الأخيرة ولمدة قرنين من الزمان كما ذكرتُ لكم حتى قضى (ميجي) عليهم، وقاد اليابان لمرحلة تحولاتٍ كبرى وانتهج سياسةً مستنيرةً جداً من أجل النهوض ببلاده، وقد أقسم على ما يلي وبعضهم يسمّيه (القسم الخماسي) ونصّ على:

تشكيل مؤسسات حرة ويكون إقرار جميع الأمور عن طريق النقاش المفتوح

توحيد جميع الطبقات بشكل متماسك وصحيح لتحمل مسؤولية إدارة حكم البلاد.

السماح لعامة الناس بأن يحققوا ما يحلمون به وتسهيل حصولهم عليه، فهم ليسوا أقل مرتبة من الموظفين المدنيين أو الضباط العسكريين.

التخلص من جميع العادات القديمة السيئة واستبدالها بعادات صالحة للعصر.

نشر المعرفة في أرجاء اليابان لتقوية أسس الحكم الإمبراطوري.

 

سميت هذه الفترة بثورة (ميجي) التي امتدت من سنة 1868 حتى سنة 1912 يوم وفاة هذا الأمبراطور الذي فتح الحدود وسمح لأهل الريف الدخول للعاصمة وأنشأ المدارس النظامية والمسارح وشجع الفن وأشاع روح الحضارة الغربية حتی تغيرت ملابس الناس كثيراً في عصره، مما دفع بعض المؤرخين أن يقول عن فترة حكمه: إنها كانت تهوراً ولكن بلغ بها إلى القرن العشرين بقوّة.

هذه الثورة (الميجية) ضمنت لـ «طوكيو» التفرد والتميز طيلة السنوات التي عاشتها وهي في أبهى صورةٍ من العدل والتعليم والفن والتحوّل القوي وقد زادت أعداد الناس تدريجياً بسبب كل الإصلاحات التي قام بها هذا الإمبراطور الخطير، وقد تولى الحكم من بعده في سنة 1912م نجله الإمبراطور (تايشو).

ولكنه كان عكس والده بل يعاني من بعض الأمراض النفسية كما يذكر المؤرخون مما أدى إلى اختلال في بعض القرارات حتى تولى نجله (هيرهوتو) ولاية العهد فأنقذ عرش أجداده حتى يوم وفاة والده في سنة 1926 وتولى من بعده ليصبح الإمبراطور الياباني 124.

في عهد (تايشو) في سنة 1923 وقع زلزال عظيم في «طوكيو» دمرت فيه العاصمة دماراً عظيماً وقُتل بسببه أكثر من 100 ألف ياباني وخلّف مليونين من سكانها بلا مأوى، فتم إعادة بناء المدينة من جديد بعد الخراب الواسع الذي خلفه الزلزال وكانت نواقيس الحروب تُدق في كل مكان.