استباحة المدينة بين الحق والباطل 2-1

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكرت لكم في مقالي عن تاريخ الطبري، أنه كتابٌ مجموعٌ من أقدم المجاميع التاريخية التي وصلت إلينا، وقد جمع فيه المؤلف كلَّ ما نُقل إليه من أخبارٍ صحيحة ومكذوبة، مثله كمثل وكيل النيابة في هذه الأيام؛ الذي يجمع الأقوال كلها صدقها وكذبها، ويسجلها حتى يتم تمييز الحق من الباطل بعد ذلك قبل نطق القاضي بالحكم، وهذا ما ذكره الطبري في مقدمته لكتابه »تاريخ الأمم والملوك«، ولكن بعض من لا علم عنده، ولا عمل يشغله، يريد أن يكون مؤرخاً وهو لا يملك أدوات هذا العلم ويجهل طرقه، وقد تمّ له ذلك لكونه من الإعلاميين المشهورين رغم أنف التاريخ والمؤرخين، فاتخذ له ممثلين وسمّاهم طلاباً في مدرسته للمشاغبين، وجلس يقرأ عليهم تاريخ الطبري ويقول لهم: »هذا ليس من عندي، هذا ما رواه الطبري في تاريخه«.

قلتُ: هذا المقدم للبرنامج بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون لا يعلم بحقيقة تاريخ الطبري التي ذكرتها لكم، فهو جاهل في علم التاريخ والتحقيق، وإما أنه يعلم حقيقة الأمر ولكنه يريد غشّ ملايين المشاهدين الذين يظنون فيه الأمانة والصدق، ليثير الشكوك حول تاريخ الإسلام!

إباحة المدينة في زمن يزيد بن معاوية خبرٌ مشاع في كتُب المؤرخين، ومنهم من يروي أخبارها بالأسانيد ليقوم المحققون العلماء من بعده بتحقيقها ووضعها على ميزان الجرح والتعديل، ليُعرف الصحيح منها والضعيف، ومنهم من لا يذكر للقصة سنداً، وإنما هي يتيمة الكذّاب الذي وضعها أول مرة، ونحن نردها مباشرةً إلا إذا وجدنا سند رجالها، فهنالك يبدأ البحث والدراسة للوصول إلى حقيقتها، وسأتحدث في هذا الأمر من محاور عدة تكملة لمقالات تاريخ الطبري السابقة.

أولاً: معنى الإباحة

تقول معاجم اللغة العربية: »استباحَ الأمرَ: عدّه مُباحًا غير ممنوع وأقدم عليه، واستباح الجُنْد المدينة: استولوا عليها حربًا، واستباح أرض فلان: نهبها، واستباح الحرمات: اعتدى عليها وانتهكها، واستباح مالَ الآخرين: تملّكه واستولى عليه«. قلتُ: هذه معاني مادة الاستباحة التي تدور عليها هذه القصة، فأيها هو الصحيح في هذه القصة المؤلمة التي افترى فيها الكذابون كثيراً من الكذب لتشويه صورة المخالفين لهم من الخلفاء؟ لنعرف، علينا إكمال البحث والتحري.

ثانيا: رُواة قصة استباحة المدينة

أقدم من روى قصة استباحة المدينة، في ما أعلم، هو الطبري في تاريخه، ويتصدر الراوية لديه (أبو مخنف لوط بن يحيى)، وقد ذكرت لكم ما قاله الإمام ابن حجر عن أبي مخنفٍ هذا بأنه »إخباريٌّ تالفٌ لا يوثق فيه«، وهو من روى أنّ مسلم بن عقبة المري أباح المدينة ثلاثاً، وانتشرت من بعده الروايات والأساطير، فيقول باختصار: »وصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك حدث فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم ثلاثاً، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت (انتصرت) عليهم فأبحها ثلاثاً، وما فيها من مال أو رقة سلاح أو طعام فهو للجُند، ثم دعاهم مسلم بن عقبة فقال: يا أهل المدينة، إنّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية يزعم أنكم الأصل، وإني أكره هراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثاً، فلما اختار أهل المدينة الحرب، أباح مسلم المدينة ثلاثة أيام، يقتلون الناس ويأخذون المال، وأفزع ذلك من بها من الصحابة«.. هذه رواية أبي مخنف الكذاب مختصرةً، وإذا قدرنا صحتها، فهل تعني الإباحة استباحة الأعراض كما زعموا، والعياذ بالله، بأن ألف امرأة حملت من غير زوج، كقول هذا المذيع في برنامجه من غير حياء أمام المشاهدين؟! وللمقالة بقية..

Email