تاريخ الطبري.. ومدرسة المشاغبين »3-2«

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يعلم الكذّابون، بل لم يخطر على عقولهم المشغولة بتضليل عوام الناس وتخريب معتقداتهم وأفكارهم الطيبة عن دينهم وتاريخهم العريق، أنّ الله يقيّض للإسلام علماء كباراً ينافحون عنه ويذودون عن حماه فلا يستطيع أن يكدّر صفوه هؤلاء بكذبهم وميْنهم، ولا ينال منه تدليسهم وافتراءاتهم منذ البدء حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فعلماؤنا لم يتركوا واردة ولا شاردة من الأحاديث والسير والأخبار والآثار إلا بيّنوا أسانيدها، وألّفوا فيها المصنفات الجليلة التي لم تترك للذين أتوا من بعدهم مجالاً للصدفة أو للجهل بحال الرواة.

وهكذا تتابع العلم جيلاً بعد جيل حتى جاء هذا العصر العجيب الذي جُعلت فيه منابر إعلامية لقومٍ لا يعرفون الفرق بين الصحيح والسقيم من الروايات، ولا يفهمون أنّ المجاميع تحوي القويَّ والضعيف والمقبول والمردود، وهو ما بينه أبو جعفر الطبري (224-310هـ) رحمه الله، في مقدمة تاريخه الكبير (تاريخ الأمم والملوك) إذ يقول: »فما يكون في كتابي هذا من خبرٍ ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يُؤْت في ذلك من قبلنا، وإنما أُتِي من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وأنّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدّي إلينا«. هذه أيها الأعزاء هي حقيقة الروايات المكذوبة من الأخبار في تاريخ الطبري، فهو نقلها كما نُقلت إليه ثم تركها للعلماء كي ينقدوها ويبيّنوا صدقها من زورها، وهو لا يبالي بالرواة ولا ينقد الأخبار وإنما يرويها كما سمعها، وقد تبرأ في المقدمة ونبّه على أنّ الروايات المستشنعة والمنكرة التي أوردها فهي من أمانة النقل، ولم يدر أبو جعفر الطبري أنّه سيأتي من بعده جهّال أو حاقدون سيثيرون بهذه الروايات الكاذبة شبهات حول تاريخنا العظيم.

ونفهم من فحوى كلام الإمام الطبري في مقدمته تحذيراً واضحاً، فهو قد تبرأ من كل جاهلٍ غير مميّز وكأنّه يقول: ليحذر كل من يقوم بتدريس هذه الأخبار من »تاريخ الأمم والملوك« وليتحقق من الأسانيد، فكتابي ليس لعامة الناس وإنما لمن يملك قدرة التمييز والدراسة والمقارنة، وليس كما يفعله المدرس في مدرسة المشاغبين ويراه ملايين الناس عبر القناة الفضائية، فيبحث عن كل روايةٍ موضوعة مصنوعة للحطِّ من تاريخ خلفاء الإسلام الأوائل، بسبب تعصبٍ مذهبيٍّ أو كرهٍ عنصري أو جهلٍ في الحقائق أو تمهيدٍ للطعن في الإسلام كله.

يقول محب الدين الخطيب (1886-1969م) رحمه الله عن هذا الكتاب: »إنّ كل خبر في (تاريخ الطبري)، بل كل نصٍّ يتناقله أهل العلم في أجيال الإسلام، له عند أهله قيمة رفيعة أو وضيعة، على قدر شرفه أو خسَّته بالرواة الذين يُنسب إليهم ذلك الخبر أو ذلك النص، فشرف الخبر في التراث الإسلامي تبعٌ لصدق راويه ومنزلته من الأمانة والعدالة والتثبّت، لذلك امتازت كتب سلفنا الأول بتسمية الرجل المسؤول عن أيِّ حديثٍ نبوي يوردونه فيها، وبيان المصدر الذي جاءوا منه بأيٍّ خبر تحدّثوا به إلى الناس، ولو لم يسمُّوا الرجل المسؤول عن نقل الحديث النبوي وإيراده، ولو لم يبينوا المصدر الذي حصلوا منه على أي خبر يودّون ذيوعه بين الناس، لطالبَهم بذلك علماء الثقافة الإسلامية بأشد من مطالبة المحاكم من يدّعي ملكية العقار أو الحقل بما يثبت ملكيته له ومن أين صار ذلك إليه.

وإذا كان مبدأ «أنَّى لكَ هذا؟" مما سنَّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مشروعية امتلاك الأموال، فإنّ أبناء الجيل الذي منه عمر بن الخطاب هم الذين سنّوا للناس بعدهم وجوب بيان مصادر العلم، كما سنّوا لهم وجوب بيان مصادر المال، والعلم أثمن عندهم من المال وأشرف، وأنفع منه وأبقى. نعم نقول للدجّالين والكذَبة: أنّى لكم هذه الأخبار؟ وأثبتوا لنا صحة هذه القصص، ولماذا لا تقولون للناس: إنّ تاريخ الطبري ومثله من المجاميع التاريخية ليس للعامة بل للمتخصصين؟ ولماذا لا تبينون لهم أن هذه الكتب فيها الحق وفيها الباطل، قبل أن تفتروا على أعلام المسلمين وتشوهوا تاريخ الإسلام.. وللمقال بقية.

Email