من روائع رمستنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكرتُ في الأسبوع الماضي معنى كلمة «الرمسة»، التي يتعجّب منها بعض أخوتنا في الخليج العربي، وذلك لأنّهم لا يعرفون معناها، ولم يبحثوا عنها في المعاجم العربية القديمة، ليعلموا أنّها فصيحةٌ، وليست من أخطاء العوام، وليست أيضاً مستوردة من خارج المنطقة، كما يظنُّ آخرون، بل هي مفردةٌ عربيةٌ، وُجدت هنا منذ آلاف السنين، وتطوّرت مع تطوّر اللهجات، بعد تغيّر ألسن العرب الأقحاح، فلم يعودوا يتوارثون «الإعراب»، وهي ـ حركات آخر الكلمة ـ وصارت جملهم مبنية على السكون، كحال جميع العرب اليوم، لأنّ العوامل النحوية مؤثرة بطبيعتها، كالمبتدأ والخبر، وكان وإنّ وأخواتهما، وغيرها، والتي حُفظت لآلاف السنين في لسانهم العربي، وأرضعته الأمهات العربيات لأبنائهنّ وبناتهنّ، فتكلموا بالفصاحةِ سليقةً عبر قواعد وُلدوا بها وحفظوها، كما نحفظ نحن لهجتنا العامية، فنحسن أساليبها، وننتقد من يكسر قواعدها، ونعلّم أبناءنا النطق الصحيح لها لكي لا يكونوا مسْخَراً لأحدٍ من الناس في منطقتهم، وكذلك كان العرب في عصر ما قبل الإسلام وبداياته.

اقترح عليّ أحد الأخوة عبر «تويتر» أن أخصص كل يوم خميس لأناقش موضوعاً في «رمستنا» الإماراتية، وهو أمرٌ صعب، بسبب أنّ الالتزام بموضوعٍ ما، خاصة في كتابة الأعمدة اليومية، أمرٌ لا يمكن أن يتحقق، ولكني سأحاول أن أكتب حولها ما سنحت لي فرصةٌ، وتهيأت لي الظروف، وهذه مقالةٌ جديدةٌ عن روائع لهجتنا، التي هي ابنةٌ بارةّ بأمها اللغة العربية الفصحى، فقد حافظت على مفرداتها وأساليبها خلا الإعراب طيلة غيابها عنّا، وسأذكر بعض الشواهد التي تشهد على روعتها.

أذكر أنّي كنت أطالع في بداية طلبي للعلم كتاب «أدب الكاتب» لابن قتيبة الدِّينَوري (276 ـ 213 هـ)، رحمه الله، ومرّت مادة (الخبْط) فسألتُ مباشرةً عن هذه المفردة جدتي ـ رحمها الله ـ فقالت: الخبط يستخدمه أهل الغوص، فقلتُ: ليس ذلك ما أعنيه إنما أسألك عن (الخبَط) الذي في البرّ، فقالت: هو أن يضرب الراعي بعصاه الشجر، فما تساقط من الورق فنسميه (خبَط)، فلما قرأت ما سطّره ابن قتيبة ذُهلت لأنّه نقل مثل كلامها، وكأنّه أخذه عن أعرابي في زمنه، حيث قال: «الخَبْط مصدرُ خَبَطْتُ الشيء خَبْطاً (والخَبَط) ما سقط من الشيء تَخْبِطه، من ذلك خَبَطُ الإبل الذي تُوجَرُه (تبتلعه)، إنما هو ورق الشجر يُخْبَطُ فينتثر»، فقلتُ: سبحان الله، فصاحة أهلنا في الإمارات لم تنقطع كل هذه القرون الكثيرة، وإنّما ينقصهم قواعد النحو فيعودون إلى أصل لغتهم الفصيحة.

وفي موقف آخر، كنت في مجلس أقارب لي من الشيوخ الطاعنين في العُمُر، فقال أحدهم: إنّ فلاناً سبّ فلاناً، فردَّ عليه أحدهم وقال: لم يسبّه بل نضحه، فبحثتُ عن مادة (نضح) في معاجم اللغة العربية فوجدتُ المعنى الذي كان يدور حوله الكلام مطابقاً للمعنى نفسه الذي كان يتكلم به العرب الأقحاح، يقول الفيروز أباديُّ في قاموسه: «أنضحَ عِرْضَهُ: لَطَخَهُ»، وجاء في لسان العرب: «أمضح عرضه وأنضحه إذا أفسده»، فلما قرأتُ هذا عجبتُ أشدّ العجب من فصاحة هؤلاء الشيوخ الكبار، الذين أعدّهم مرجعاً مهماً للهجتنا الفصيحة، فقد قام هذا الشيخ بتصحيح مفردة «سب» لمعنى أكثر دقةً للموضوع المثار، فقال: «نضحه»، وهذا من روائع «رمستنا» التي يجب أن نحافظ على دقتها ووصفها العميق، لأنّ بقائها بقاء للغة العربية الفصحى، ولدي شواهد كثيرة على نفس الموضوع سأنثرها في المقالات القادمة إن شاء الله.

Email