سألت من خلال حسابي في «تويتر» عن مزايا لغتنا العربية الخالدة، فوصلتني إجابات كثيرة من أخواتي وإخوتي، شعرت من كلامهم اعتزازهم بلغتهم، وحرقة صدورهم عليها لشدة التغريب الذي تعيش فيه مجتمعاتنا العربية، فهم يدافعون عنها كأنّها تتعرض الآن إلى هجوم كاسح من أعدائها - وهي كذلك - فكان اندفاعهم العفوي هذا طبيعياً، وينبع من عشق فطريٍّ، وخوف من خطر محدق بلغة عزّهم ومجدهم وتاريخهم العريق، وقد وجدت إجاباتهم تدور حول جَابةٍ واحدة، وهو خبر يتناقله العرب والمسلمون منذ عصور قديمة، يفيد بأنّ اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، وسأسوق لكم في ما يلي الخبر كاملاً، وسندندن معكم حوله قليلاً لنتعرف إليه، ونفرّق بين صحيحه وسقيمه، وهل كون لغتنا لغة أهل الجنّة تُعدُّ مزيّة لها، إن قال قائل معترضاً: أي ميزة في لغتكم إن صحّ أنّها لغة الفائزين في جنّات عدن، لأنّ الآخرة ما زالت بعيدة عنّا، وإنّما تصحّ المفاضلة في الدنيا بين اللغات في سعتها وتجددها وقدرتها على استيعاب لغة كل عصر، فهل لغتكم كذلك؟!
قلتُ: لن أجيب أيّها الأعزاء في هذه المقالة عن سؤال المعترض هذا علينا، المقلل من شأن لغتنا العظيمة التي لا تشبهها أي لغة في العالم، أسلوباً ومفردات وقواعد ومخارج حروف، ولا سحراً وصوتاً، وسأتركها لمقالة أخرى، ولكنّي سأجيب عن السؤال الذي طرحته في العنوان: هل صحّ خبر أنّ العربية لغة المؤمنين في الجنة؟ وأقول: لم يصحّ أي خبر في هذا الأمر، ولا أحد يعلم ما لغة أهل الجنة ولا أهل النار، وبأي لغة سيخاطب الله عباده، وكلُّ ما رُوي في هذا الشأن، إما أن يكون موضوعاً أو معلاً بعلل تمنع الاستشهاد به، والخبر المشهور الذي تجدونه في كثير من كتب الأدب، هو ما رواه الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبّوا العرب لثلاث لأنّي عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي»، وهذا الحديث قال عنه أهل الحديث إنّه موضوع، أي هو خبر مكذوب على رسول الله، لا يُستشهد به.
وقد روى العلماء حديثاً آخر عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخلُ أَهلُ الْجَنةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ، سِتِّينَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ المَلِكِ، على حُسْنِ يُوسُفَ، وعلى مِيلادِ عيسى ثلاث وَثلَاثِينَ، وعلى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ». وهذا الحديث روي من طُرُق أخرى من غير زيادة «وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم»، وقد أنكر أهل الحديث هذه الزيادة، لأنّ المتفرد بها روّاد بن الجرّاح، ولا يصح تفرّده بسبب ضعفه، وهناك علّ
ة أخرى، وهي أنّ هارون بن رئاب شكك العلماء في روايته عن أنس، وبهذه المخالفة ضعُف الاستشهاد به جداً.
ولا يهمنا اليوم أن تكون لغتنا العربية لغة أهل الجنة أم لا - جعلني الله وإياكم من أهلها- لأنّها نالت أكبر شرف تتشرف به وتفتخر، فهي تحمل كلام الخالق عزّ وجلّ، وهل هناك أكبر من هذا التكريم والمجد، وقد حفظها الله لنا بحفظ كتابه العزيز، ولو لم يكن القرآن بيننا يتلى آناء الليل والنهار، لزالت هذه اللغة واندثرت منذ زمن بعيد، فأهلها أهل بداوة وقلة معرفة بالكتابة قبل مجيء الإسلام، فأعزهم الله به، وحفظ لغتهم، وجعلهم ملوك الدنيا لقرون عديدة.
وأختم بكلام نفيس للإمام ابن تيمية، عندما سُئل عن هذا الموضوع، أورده هنا لحاجة مقالي له، فأجاب رحمه الله تعالى: «لا يُعلم بأيِّ لغة يتكلم الناس يومئذٍ، ولا بأيِّ لغة يسمعون خطاب الربِّ جلَّ وعلا، لأنّ الله تعالى لم يخبرنا بشيء من ذلك، ولا رسولهُ عليه الصلاة والسلام، ولم يصح أنّ الفارسية لغة الجهنّميين، ولا أنّ العربية لغة أهل النعيم الأبديِّ، ولا نعلم نزاعاً في ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم، بل كلُّهم يكفُّون عن ذلك، لأنّ الكلام في مثل هذا من فضول القول، ولكن حدث في ذلك خلاف بين المتأخرين، فقال ناس: يتخاطبون بالعربية، وقال آخرون: إلا أهل النار، فإنهم يجيبون بالفارسية، وهى لغتهم في النار.
وقال آخرون: يتخاطبون بالسريانية، لأنّها لغة آدم، وعنها تفرّعت اللغات، وقال آخرون: إلا أهل الجنة، فإنهم يتكلّمون بالعربية، وكلُّ هذه الأقوال لا حجة لأربابها، لا من طريق عقلٍ ولا نقلٍ، بل هي دعاوى عارية عن الأدلة، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم».