أنقل لكم أيّها الأعزاء بَادي بدْأةَ وقبل الدخول في موضوعنا اليوم، أفضلَ رسالةٍ يمكن أن نقرأها في أحكام القضاء أرسلها الفاروق عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وهو أجلّ الصحابة منزلةً بعد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتحوي هذه الرسالة العظيمة فهماً كاملاً واختصاراً مهمّاً لكلِّ جوانب القضاء العادل الذي لو تجدّدت أشكاله وتطوّرت قضاياه وأحداثه عبر السنين ستبقى حقيقته خالدة وقطب رحاه واحدا، وهو العدل الذي أمر به الله عزّ وجلّ في كتابه فقال :"وإذا حكمتم بين الناس أنْ تحكموا بالعدل إنّ الله نعمّا يعظكم به إنّ الله كان سميعا بصيرا"، وفيها أيضاً فهمٌ دقيقٌ للخليفة الراشد لقول رسول الله في الحديث الصحيح :"القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة:
-قاضٍ عرف الحقّ فقضى به فهو في الجنة.
-وقاضٍ عرف الحق فجار متعمداً فهو في النار.
-وقاضٍ قضى بغير علمٍ فهو في النار".
أرسل الفاروق رضي الله عنه هذه الرسالة إلى واليه على "البصرة" وهو الصحابيُّ الجليل أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري وأظنّ أنّ وقت هذه الرسالة عندما عزل عمر بن الخطاب القاضيَ أبا مريم الحنفيَّ بعد أن اشتكى أهل البصرة ضعفه وقلّة حيلته فرأى أن يضمّ القضاء للوالي ولم تكن من عادته ذلك، ولكنّه رأى في أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ما يؤهله لهذا المنصب الجليل .
ولكي يتأكد من عدله وحسن تصرفه أرسل له هذه النصائح الجليلة التي يجب أن يعمل بها كلُّ قاض في أيّ مكانٍ وأيّ زمانٍ، ولا تظنون أنّ عمر ترك الأمر وسهى عنه ولكنّه كان يبحث عن قاضٍ آخر في هذه الفترة وعندما وجد القاضي المناسب وهو كعب بن سوار الأزدي أعاد فصل القضاء عن الولاية في سنة (18) هجرية وولاّه قضاء البصرة وبقي قاضياً حتى مقتل عمر رضي الله عنه.
رسالة عمر بن الخطاب مما يُسمّى وأسمّيها بـ"السهل الممتنع" حيث يظن من يقرأها أنه بإمكانه أن يكتب مثلها فإذا تدبّرها وفهمها علم أنه تمتنع عليه جداً وهذه نصها مع شرح قليل لمفرداتها:"إنّ القضاءَ فريضةٌ محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك (أي إذا حضر المتخاصمون وأحضروا حججهم)، فإنّه لا ينفع تكلمٌّ بحقٍّ لا نفاذ له (بسبب قلة الفهم وعدم الإصغاء)، وآس (سوِّ) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك (أي في تبسمك ونظرتك وما إلى ذلك)، حتى لا يطمع شريف في حيفك(ميلك له) ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البيّنة(الدليل) على من ادعى واليمين(الحلف) على من أنكر؛ والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً، ولا يمنعك قضاءٌ قضيته أمسِ فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإنّ الحق قديم، لا يبطله شيء ومراجعة الحق (الرجوع إليه) خير من التمادي (الاستمرار) في الباطل؛ الفهمَ الفهمَ .
فيما تلجلج(تردد) في صدرك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه، ثم اعرف الأمثال والأشباه؛ وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بيّنة أمداً ينتهي إليه، فمن أحضر بيّنة (دليلا) أخذت له لحقه، وإلا استحلل القضية عليه.
فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى (أوضح للأمر المبهم)؛ والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدٍّ أو مجرّباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاءٍ أو نسب (متّهم)، فإنّ الله عفا عن الأيمان(جمع يمين) ودرأ (دفع) بالبيّنات (الأدلّة). وإيّاك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإنّ الحق في مواطن الحقِّ يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، والسلام".
إذا تدبّرنا هذه النصائح الخالصة العظيمة من هذا الخليفة الراشد للقضاة وقمنا بتطبيقها على أرض الواقع هذه الأيام، فكم يمكننا أن نصل من نسبة التطابق العمليّ بينهما، وأقول: الله أعلم بذلك، لأنّ الأمر يختلف من دولة إلى أخرى، ومن قاضٍ إلى قاضٍ آخر، والحمد لله ثم أعيد الحمد والشكر أنّ حكامنا الكرام في دولتنا الحبيبة يحرصون على العدل ويحثّون عليه دوائر العدل ولا يتدخلون في شؤون القضاء.
وهذا أعرفه وأشهد عليه بسبب قربي منهم ومعرفتي الكاملة بما أقوله لكم، فالمسألة كلّها تقع اليوم في دوائر العدل على كاهل القاضي إذا أحبّ أن يكون من الناجين ومن مفرد الثلاثة الذي يدخل الجنّة كما قال رسول الله، أو - والعياذ بالله - يريد أن يكون من الاثنين الآخرين اللذيْن سوف يدخلان النار بسبب الظلم أو الجهل. وللمقالة بقية.