هناك عدد كبير من الأمثال العربية الفصيحة القديمة وأمثالها التي ولّدها المولّدون بعد ذلك في القرون الأولى الإسلامية، ثم انتشرت الأمثال الشعبية في لهجات العرب المختلفة بعد انتهاء عهد الفصحى من ألسنة الناس وحلول العامية محلّها، فانتج العرب الشعبيون عدداً كبيراً من الأمثال تستأهل الدراسة والبحث عن سبب ورودها وفهم معانيها.
كما فعل علماء العربية الأوائل من مثل الزمخشري والميداني ثم من جاء من بعدهم بقرون في العصر الحديث كالعلامة اللغوي أحمد تيمور باشا (1930-1871م) فأخرج للناس كتابا عجيبا في "الأمثال العامية" المصرية، ثم توالت الكتب بعد ذلك في كل أقطار الدول العربية، لكنّ أغلبها لا يصل إلى درجة الدراسة المتأنية والغوص في معانيها وإخراج مختلف رواياتها حتى تكون أبحاثهم تامة، وإنما الغالب عليها الجمع.
كذلك مما ينبغي الإشارة إليه أنّ بعض الأمثال الشعبية أصلها فصيح قد حرّفتها العامّة، وقد شرحتُ لكم أمس معنى "براقِش" واليوم أذكر لكم قصة هذا المثل وأنقل أوجه رواياته حتى يمكننا التمثّل به ونحن على دراية بمعناه وقصته.
روايات المثل
نقلَت كتُبُ الأمثال القديمة عدة روايات لهذا المثل فمنهم من روى:
1- "على نفسها تجني براقش".
وهذه الرواية الأكثر شهرة بين الناس، وهناك رواية أخرى وهو قولهم:
-2"على أهلها جنت براقش".
وهي مشهورة أيضا ولكن دون الأولى، ووردت في شعر حمزة بن بِيض:
لمْ تَكُنْ عَنْ جِنايةٍ لَحِقَتْني
لا يَسارِي ولا يميني جنَتْني
بَلْ جَناها أَخٌ عَلَيَّ كَرِيمٌ
وعَلى أَهْلِها "براقِش" تَجْني
وروى غيرهم:
-3 " على أهلها دلَّت براقش".
وهي بمعنى الثانية، ولكنها الأقرب للصحة وقد رواه الجاحظ وغيره واعتمدتها في العنوان، هذا إذا كان سبب المثل هو نُباح الكلبة "براقش" كما سيأتي، لأنها لم تجنِ على نفسها، بل دلّت العدو وجنت على أهلها، أمّا إن كانت "براقش" امرأة فيصحّ فيها المثل الأول.
والقصة المشهورة للمثل من رواية أبي عبيدة قال: "براقِش" اسم كلبة نبحت على جيشٍ مرّوا ولم يشعروا بالحيّ الذي فيه الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أنّ أهلها هناك فعطفوا عليهم فاستباحوهم، فذهبت مثلاً، وروى أيضا: "براقِش" اسم امرأَة وهي ابنة ملكٍ قديمٍ خرج إِلى بعض حروبه واستَخْلفها على مملكته، فأشار عليها بعض وزرائها أن تَبْني بناء تُذْكرُ به، فبنتْ موضعين يقال لهما "براقِش ومَعِين"، فلما قَدِم أَبوها قال لها: أَردتِ أن يكون الذكر لكِ دوني، فأَمر الصُّنَّاع الذين بَنوْهما بأَن يهدِموها، فقالت العرب: "على أَهلها تجني براقِش"، وروى غيره: أنّ "براقِش" امرأَة لقمان بن عاد، وكان بنو أَبيه لا يأْكلون لحوم الإِبل، فنزل لقمانُ على بني أَبيها فأَوْلَمُوا ونحروا جَزُوراً إِكراما له، فراحت براقِش بِشيء من لحم الجزور فأكل لقمانُ منه، فقال: ما هذا؟ ما أكلتُ مثلَه قط، فقالت:هذا من لحم جزور، قال: أَوَ لُحوم الإِبلِ كلّها هكذا في الطِّيب؟ قالت: نعم، ثم قالت له: جَمِّلْنا واجْتَمِل (اجلب الشحم المذاب)، فأَقبل لقمان على إِبلِها وإِبل قومها فأشرع فيها وفعل ذلك بنو أَبيه، فقيل: "على أَهلها تجني براقِش" فصارت مثلاً.
قلتُ:هذه هي القصص التي رواها العرب لهذا المثل السائر، وأجدني أميل إلى القصة الأولى فهي الأقرب للتصديق وهناك موضع سياحي مشهور باسم "براقِش" لا يزال في منطقة الجوف اليمنية يقال أنّه سُمّي باسم الكلبة أو يكون من بناء "براقِش" بنت الملك والله أعلم.