من أشد الأمور وأصعبها على الدارسين المحققين أن يُسقطوا من كشف مراجعهم مرجعاً فيه معلومات لا توجد في غيره، لأن متعة العلم والأخبار في الظفر بتسلسل الأحداث ومعرفة تفاصيلها التي لم تُذكر في المصادر الأخرى، وإنما مثلُ متعتهم وفرحتهم مثل المكتشف الذي لتوّه عرف حقيقةً ما، فطار بها سروراً، أو كالتائه في داويّةٍ محيلٍ، وإذ به يجد نفسه أمام واحةٍ غنّاء، ومن قرأ كتاب "الإمامة والسياسة" سيجد فيه من الأخبار ما لا يوجد في غيره، مما جعله مرجعاً مهما للباحثين الذين لا يبالون بصحة الكتب وسقمها، ولم يميزوا بين ما يستشهد به وما يردُّ حسب القواعد العلمية الصحيحة، التي يتبعها العالم المحقق، والذي لا يرضى أن يستشهد بأخبارٍ ملفقّةٍ وأحاديث موضوعة، كما هو حال كتاب "الإمامة والسياسة".
غلط من نسبه لابن قتيبة
كلُّ من ترجم للعلامة ابن قتيبة لم يذكر هذا الكتاب من جملة مصنفاته المفيدة، والتي اشتهرت في حياته ومن بعده شهرةً كبيرةً، ولو كان "الإمامة والسياسة" له لذكره تلاميذه والمؤرخون، وهذه الحجة وحدها تكفي لإسقاطه من قائمة مؤلفاته، وقد يعترض أحدهم ويقول ذكره ابن شباط التوزري (618 ـ 681هـ) في كتابه "صلة السمط"، وقد ذكره أيضاً القاضي ابن العربي الأندلسي (468 ـ 543هـ) بسوءٍ في كتابه "العواصم من القواصم"، وذكره غير واحد من المؤرخين واستشهد به، والجواب:
كل من ذكر هذا الكتاب من المتأخرين عن عصر ابن قتيبة كثيراً، وهم قلة، في حين كتاب ابن قتيبة التاريخي "المعارف" وكتبه الأخرى ذُكرت في عهده ومن بعده ونهل الناس من علومها، أما ذكر ابن العربي لهذا الكتاب فهو من قبيل التحذير منه، حيث قال: "ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال، فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتاب (الإمامة والسياسة ) إن صح عنه جميع ما فيه".
وقول ابن العربي هذا يدل على غضبه الشديد، حتى تجاوز واتهم ابن قتيبة بالجهل، واستدرك بقوله: "إن صحّ عنه هذا الكتاب"، والذي يدل أيضاً على عدم ثقته بنسبته إلى الدينوري، ولا ألوم ابن العربي على ما قال، لأنّ من يقرأ الكتاب يعلم يقيناً أن واضعه رجل جاهل، ولكني تمنيت أن لا يرمي ابن العربي عالماً مثل ابن قتيبة بهذا المقولة، بل كان يكفيه أن يقول: لو صح هذا الكتاب عن ابن قتيبة لشككنا في علمه بالتاريخ.
وقد يقول قائل ما يمنع أن يكون الكتاب له ولم يطلع عليه إلا المتأخرون؟ قلتُ: لم يترك المتقدمون خبراً إلا وقيدوه في كتبهم وإنما نقل المتأخرون عنهم العلم، وإن لم يقنعك ما مضى فسأسوق لك حجة أخرى قد تهتدي بها، وهي إذا تتبعت كتب ابن قتيبة الموجودة سوف تجد شيخين من شيوخه يكثر النقل عنهما في جميع كتبه (المعارف، عيون الأخبار، الأشربة، أدب الكاتب، تأويل مختلف الحديث، الشعر والشعراء، المعاني الكبير)، أو ينقل عن واحد منهما وهما العباس بن فرج الرياشي (257هـ) وأبوحاتم سهل بن محمد السجستاني (250 هـ)، وإذا قرأت كتاب "الإمامة والسياسة" سوف تجده خالياً منهما، مما يؤكد لك بأن مؤلفه غير ابن قتيبة.
وإذا لم تقتنع بما قلته لك فلعلك تقتنع بما قاله العلماء فيه، من مثل العالم المحقق محب الدين الخطيب، الذي يقول معلقاً على كلام ابن العربي المذكور: "الإمامة والسياسة لم يصح عن ابن قتيبة شيء مما فيه، لأن كتاب الإمامة والسياسة مشحون بالجهل والغباوة والركة والكذب والتزوير، وهو يروي كثيراً عن اثنين من كبار علماء مصر، وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ عن هذين العالمين، فدل ذلك كله على أن الكتاب مدسوس عليه".
فإن قلت لي إنك لا زلت تشك في قولي، فاقرأ هذا النص من هذا الكتاب المزعوم واحكم بنفسك، يقول: "فقال المهدي لهارون الرشيد: أي بني، والله ما أردت استخلافك، ولا هممت به لحداثة سنك، وقد كان قال لي جدك أبو جعفر، وأنت يومئذ قد ترعرعت في أول رؤية رآك: إن ابني هذا الأعين سيلي هذا الأمر، ويسير فيه سيرة صالحة، ويكون ملكاً بضعاً وعشرين سنة، وتقتله الحمى الربع، فاندفع الرشيد باكياً، فقال له: ما يبكيك يا فتى؟ قال: يا أبت، إنك والله نعيت لي نفسي، وعرفتني متى أموت، ومم أموت؟ قال: هو ذاك، فشمْر، واجتهد وجد"، ها أنت ذا قرأت النص فهل تظن أن عالماً مثل ابن قتيبة سيروي مثل هذه القصة المضحكة مرتين هنا وفي آخر كتابه؟
هذا وقد ذكر المحققون كثيراً من الشواهد على بطلان نسبة هذا الكتاب، وأرجّح أن يكون مؤلفه من القرن الرابع وقد يكون اسمه ابن قتيبة، فظنه الناس أنه للدينوري، أو كتبه أحدهم وأراد له الرواج، فكتبه باسم ابن قتيبة ليشتهر ويأخذه الناس على محمل الصدق، والله أعلم.