البحث عن الآخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل جربت يوماً شعور الغرق في قاع سحيق، والاستسلام المطلق لكل تلك الطاقة التي تسحبك نحو المجهول دون أي مقاومة؟

يشبه هذا الشعور إلى حد كبير عندما يستحوذ علينا التخلي بكل طقوسه البيضاء، فيصبح كثقل معلق بأجسادنا يسحبنا إلى حيز آخر، إلى كيان مختلف تماماً، ذلك «الشيء» الذي نختبئ خلفه بصمت، لنداري فشلنا، ذلك الكائن الأسطوري الذي يتغذى من خيباتنا كل يوم، حتى أصبح يستحوذ على نصيب الأسد من الظهور والفعل، فأصبحنا بين ليلة وضحاها مجرد «الآخر» الذي غاب، وسؤال الفشل يحاصره دون هوادة.

تكمن معظم مشكلاتنا في تهميش الألم، والظهور على مسرح الحياة بعضلات وهمية، وكلام مكرر لا يشبهنا، حتى ندرك بعد فترة من الزمن أن دوامة الخذلان سحبتنا عميقاً إلى الهاوية، وتركتنا نصارع الغرق الجاف بلا مقاومة، عندما قررنا التنصل من أدواتنا وخيوط الأمل التي تحرك أوصالنا في مشهد اليوم والأمس، إلى أن بتنا محض هامش في صورة الغد.

ولكن قد يأخذ الغرق صورة مختلفة عن تلك التي ألفناها، قد يكون الخلاص المنشود التي ستتطهر به أرواحنا من أدران الماضي ولوعة الألم، قد يكون الفشل الذي نمضي إليه بنجاح، من خلال السماح لأنفسنا أن نعيش كبواتنا وأحزاننا بشكل كافٍ ومقبول، أن نتقبلها كما هي، أن نستحضرها بلا مقاومة، إذ إن مقاومتها ستجعلها تتشبث بنا أمداً طويلاً، أن نكون في حضرتها نراقب جذورها وهي تتنصل منا، أن نراقب تلك الصفحة البيضاء المتصدعة وهي تخلو من كل شيء، أن نتفحصها ونضمدها بصبر، أن نمتلك الشجاعة بعدها للصعود إلى الأعلى، ونحن نتشبث بــ«الآخر»، كياننا الذي نسيناه طويلاً محصور في قاع انهزامنا، أن نواجه بلا هروب، أن نفشل مراراً ونحاول مراراً بلا كلل، أن نعتق أحلامنا من غرقها، أن نقاتل حتى آخر رمق بوعي وإيجابية.

وفي خضم هذا الغرق، فرحلة البحث عن الآخر رحلة صحية جداً، قبل أن نفقد «الأنا» الواحدة، وننسلخ من ذواتنا.

Email