أحد أبرز مرتكزات السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة هو الاستقلال الاستراتيجي، الذي يعني بناء علاقات إقليمية ودولية متوازنة ومستقلة ومتنوعة، مع الاحتفاظ بشبكة واسعة من الشركاء في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وقد تُوِّج هذا النهج الأسبوع الماضي بإعلان دولة الإمارات رسميًّا بدء عملية التفاوض بشأن اتفاقية شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي؛ فالإمارات لا تنحاز غربًا ولا تميل شرقًا، وتؤكد الصداقة مع الجميع. وحصيلة نهج الاستقلال الاستراتيجي الإماراتي هذا أن الجميع يُقدِّر صداقة الإمارات ومصداقيتها. وإن الاستقلال الاستراتيجي الذي تسعى الإمارات إلى ترسيخه في علاقاتها الخارجية يتطلب، ضمن أمور عديدة، اقتصادًا مزدهرًا ومستقرًّا ومنفتحًا على العالم، وقدرات متقدمة في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، بما يتضمن الطاقة النووية السلمية؛ ولكن لا يمكن لأي دولة أن تحقق استقلالها الاستراتيجي من دون بناء قدرات دفاعية وعسكرية ذاتية، وجيش يملك خبرات قتالية ميدانية، ويستند إلى صناعات دفاعية وطنية متقدمة.
إن بناء صناعة دفاعية وطنية شرط أساسي لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي لأي دولة. وقد أدركت دولة الإمارات أهمية تطوير صناعة دفاعية وطنية باكرًا، فأسست شركة "إيدج" في عام 2019، التي أصبحت تنتج طائرات مسيّرة، ومركبات مدرعة، وأجهزة اتصال لاسلكي، وأنظمة رادار، وغيرها من المعدات العسكرية؛ إضافة إلى تقنيات الأمن السيبراني. وقد تمكنت هذه الشركة، خلال معرض دبي للطيران الشهر الماضي، من توقيع اتفاقية تعاون تاريخية بقيمة 7 مليارات دولار مع شركة "ريبوبليكورب" الإندونيسية لتوطين التصنيع الدفاعي في إندونيسيا. وفي ديسمبر الحالي كشفت "مجموعة كالدس القابضة"، المتخصصة بتصنيع المنتجات الدفاعية وتطويرها، ومقرها أبوظبي، عن أول منظومة إماراتية متكاملة متعددة الطبقات للدفاع ضد الطائرات المسيّرة تحمل اسم "DAMITA"، التي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، لم يحظَ نموذج الإمارات في بناء صناعات دفاعية وطنية، وحرص الدولة على مبدأ الاستقلال الاستراتيجي في سياستها الخارجية، بالاهتمام البحثي والأكاديمي والإعلامي الذي يستحقه حتى الآن. والاستثناء الأبرز، وربما الوحيد، يتمثل في كتاب قرأته حول الاستراتيجيات العسكرية يهتم ببروز قطاع الدفاع في دول الخليج العربي وتطوره. وبرغم أن هذا الكتاب يتناول الصناعات الدفاعية في ست دول خليجية؛ فإنه يركز تركيزًا مكثفًا على مبدأ الاستقلال الاستراتيجي في الإمارات، وسعيها إلى توطين صناعتها العسكرية لتصبح من الدول المصدرة للسلاح والعتاد الحربي، ومن ذلك الطائرات المسيّرة والسفن الحربية.
ويعرِّف الكتاب مفهوم الاستقلال الاستراتيجي بأنه قدرة الدولة على صياغة أولويات وطنية، واتخاذ قرارات مستقلة في مجالات السياسة الخارجية والأمن والدفاع، وقدرتها على تنفيذ هذه القرارات بعيدًا عن تدخلات القوى الإقليمية والعالمية الكبرى. وفي حالة دولة الإمارات وبقية دول الخليج العربي، يعني ذلك أيضًا هامشًا واسعًا من الحركة بعيدًا عن التنسيق مع واشنطن؛ على الأقل في بعض الملفات.
وقد ذكر مؤلف الكتاب أن الاستقلال الاستراتيجي مبدأ سياسي يعتمد تنفيذه على قدرة الدولة على "استخدام قوتها العسكرية الصلبة لتحقيق أهداف سياسية"؛ معتبرًا أن القوة الصلبة أكثر أهمية من القوة الناعمة لتحقيق هذا الاستقلال.
ويرى المؤلف أنه من الصعب لدول الخليج العربي، مهما طورت قدراتها العسكرية وصناعتها الدفاعية، أن تحقق استقلالًا استراتيجيًّا كاملًا؛ فاعتماد هذه الدول على الشريك الأمريكي ما زال ضخمًا وعميقًا، ويزداد رسوخًا؛ بسبب التحديات الخارجية والظروف الأمنية في جوارها الجغرافي، الذي يتسم بعدم الاستقرار المزمن. ويعتقد المؤلف أن ارتباط دول الخليج العربي بالولايات المتحدة سيستمر لسنوات طويلة مقبلة، خاصة في مجالات التسليح والتدريب والاستشارات، وحتى التصنيع العسكري.
ومع ذلك، يوثق الكتاب لمسار خليجي واعد برز في السنوات الأخيرة، هدفه تنويع الشراكات الاستراتيجية وتخفيف الارتباط بالقرار الأمريكي، ومعه تخفيف الاعتماد على السلاح الأمريكي أيضًا. ويشير إلى أن المطلوب خليجيًّا ليس فك الارتباط بالشريك الأمريكي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، بل اتخاذ خطوات لتقليل هذا الارتباط -ومنها تنويع مصادر السلاح- وهي خطوات أصبحت واضحة على أرض الواقع، وتصب في سياق تحقيق قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي الخليجي.
ويركز الكتاب تركيزًا خاصًّا على دولة الإمارات ليؤكد أنها أكثر دولة خليجية تقدمًا في تطوير قطاع الصناعات العسكرية والدفاعية؛ ولذا فهي في مقدمة دول المنطقة القادرة على الاقتراب من طموح الاستقلال الاستراتيجي في سياستها الخارجية. ويضيف أن "الإمارات قطعت شوطًا بعيدًا في مسار صناعاتها الدفاعية، وتحديث وتطوير مؤسساتها العسكرية، ومأسسة قراراتها الدفاعية، وبناء قيادات عسكرية بخبرات قتالية ميدانية، والاستعداد الشعبي الذي يتجلى في برنامج الخدمة الوطنية الملزمة للشباب، الذي يعزز الولاء والانتماء والتأهب الدفاعي". وفي كل مجال من هذه المجالات حققت الإمارات نجاحات ملموسة لا تقل أهمية عن إنجازاتها التنموية والمعرفية.
وقد تجلى تصميم الدولة على تطبيق مبدأ الاستقلال الاستراتيجي خلال تحرير عدن من سيطرة جماعة الحوثي التي تحتل صنعاء، وتحرير المكلا من سيطرة تنظيم القاعدة الإرهابي. ويصف الكتاب هذا التصميم الإماراتي على ممارسة الاستقلال الاستراتيجي بأنه "لحظة خاطفة واستثنائية" جرت بعيدًا عن التدخل الأمريكي المباشر.
وفي ختام الكتاب يقول مؤلفه إن قرار الاستقلال الاستراتيجي الإماراتي يرتبط ارتباطًا وثيقًا برؤية رئيس دولة الإمارات لدور القوات المسلحة وإصراره على أنها ليست "قوات للاستعراض خلال المناسبات الوطنية، بل قوات مسلحة غير تقليدية، ذات جاهزية قتالية عالية وفق أفضل المعايير العسكرية العالمية، وبعقيدة استباقية في الدفاع عن الوطن".
ومن المفروغ منه القول إنه يستحيل على دولة الإمارات، وعلى القوى المتوسطة الجديدة عمومًا، تحقيق استقلال استراتيجي كامل في عالم مترابط شديد التداخل؛ ولكن حديث الدولة عن هذا الاستقلال ليس شعارًا سياسيًّا، بل نهج وطني طموح ونموذج عربي ملهم. وهو حجر زاوية في بروز الإمارات قوة إقليمية صاعدة، ومبدأ راسخ في سياستها الخارجية النشطة، ورافد من روافد نشاطها الدبلوماسي السياسي والأمني والاقتصادي والإغاثي والبيئي والفضائي، بما يخدم مصلحتها الوطنية في رحلتها نحو العالمية.