لم يعد الضمير العالمي يحتمل الصمت على المجازفات بمستقبل خرائط المنطقة والإقليم. ولم تعد الخرائط ذاتها تحتمل الإقامة رهناً لأوهام فلسفة الحروب القصيرة التي باتت نهجاً لإرباك وتأزيم المسرح الدولي. فلسفة هذا النوع من الحروب التصقت بسياسة إسرائيل منذ نشأتها عام 1948 حتى هذه اللحظة، بهدف التوسع الأفقي مع كل عقد، فهي قد بدأت بالهجوم والإغارة على القرى والبلدات الفلسطينية، وهجرت تحت القوة الغاشمة السكان الأصليين لهذه البلدات وتلك القرى واحتلتها وضمتها إلى ما أسمته أراضيها.
وفي ذلك العصر لم ينتبه العالم الذي كان غارقاً أو خارجاً لتوه من حرب عالمية كارثية، كأن إسرائيل تسللت بين دفاتر التاريخ، ووضعت أيديها على الأراضي الفلسطينية، وحين انتبه العالم، وأصدر قرارات مثل القرار 194 الداعي إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، كان قد تكرس وضع إسرائيلي على الأرض ببناء مدن جديدة على هذه الأرض، وطمس أسمائها العربية. ويبدو أن الهروب بالغنيمة أغرى الفلسفة الإسرائيلية بأنها قد تستطيع تكرار استراتيجية الحروب القصيرة السريعة والخاطفة، وقد فعلت ذلك مع الفلسطينيين، في كل مكان، سواء بالاغتيال للأبرياء أم بالتصفية لقادتهم، وكلما أغلقت مرحلة دموية، حرصت إسرائيل على فتح مرحلة أخرى أشد كارثية وضراوة.
الآن، وبعد ثمانين عاماً، ننظر إلى مرآة التاريخ في الشرق الأوسط، فنكتشف أن السياسة الإسرائيلية لا تزال هي نفسها السياسة ذاتها التي انتهجتها منذ النشأة، فهي تدمن الحروب القصيرة الخاطفة وكلما طالت عليها الحرب فإنها تقع في مأزق داخلي.
حدث ذلك في اجتياحها للبنان، والوصول إلى العاصمة بيروت عام 1982، فقد غرقت في حرب استنزاف طويلة، ودفعت أثماناً باهظة جعلتها تنسحب من لبنان عام 2000، وهي تعاني خسائر بشرية ومادية ودبلوماسية ضخمة، وبعد تلك الحرب حاولت أن تستعيد فلسفتها باغتيال الرموز الفلسطينية والعربية، ولا تكتفي بهذه الفلسفة لتستحوذ على مزيد من الأراضي والنفوذ، وتوسيع خرائطها في كل مرحلة.
ورأت أنه خلال حرب غزة في السابع من أكتوبر عام 2023، التي استمرت أكثر من عامين ولا تزال، ضرورة القفز على ما تبقى في فلسطين، بتقسيم غزة واحتلالها، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، ثم الإغارة على الضفة الغربية لتنسف الآمال حول مفهوم حل الدولتين.
وتعتبر ذلك إنجازاً في مفهوم الاستراتيجية الخاطفة، في ظل الانشغال الغربي بشقيه الأمريكي والأوروبي، بالصراع حول أوكرانيا مع روسيا، وفي ظل إقليم عربي عانى فوضى الثورات والميليشيات والحروب الأهلية. وتتوهم إسرائيل أن الفرص مواتية لتمكين فكرتها في الشرق الأوسط، من خلال توسيع رقعتها الجغرافية بقضم جنوب لبنان حتى نهر الليطاني، وفي سبيل ذلك تعمل على إشعال فتنة أهلية في لبنان، والضغط على الحكومة اللبنانية لاتخاذ قرارات من شأنها أن تعيد الاحتقان إلى الساحة اللبنانية، لذا تعتدي يومياً وفي كل ساعة على الدولة اللبنانية، في السياق ذاته تجعل من الأراضي السورية مسرحاً لعملياتها من أجل ضم الجنوب السوري إليها، وأيضاً خلق فتنة بين الأطياف السورية المختلفة.
ومن هنا تقوم بعمليات إغارة سريعة وخاطفة على الأراضي السورية، يمكن أن تجعل من الشعب السوري عرضة للرد في وقت معين، فتشتعل الحرب ونحن نعرف أن إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، كان لديها تصور كامل عن توسيع الحرب، وبسبب ذلك هاجمت جبهات متعددة في وقت واحد. واستطاعت أن تجذب الولايات المتحدة الأمريكية إلى مسرح العمليات، كما جرى في حرب الاثني عشر يوماً مع إيران، وكادت تشعل الجبهات العربية التي لا تشتبك معها في الحرب بالفعل، مثلما قصفت الدولة الشقيقة قطر، ذلك القصف الذي أكد على جوهر ومفهوم واستراتيجية الضربات الخاطفة. وكما يقال في الحكمة الشعبية «ليس في كل مرة تسلم الجرة»، فإنها لم تسلم هذه المرة، فقد اندفع العالم بغضب بعد قصف الدوحة، لأن إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء، واعتقدت أن مفهومها المزمن للحروب السريعة القصيرة سيحقق أهدافها طوال الوقت. أخيراً أستطيع القول إن حركة التاريخ باتت ضد هذا النوع من الحروب القصيرة التي انكشفت أمام الضمير العالمي.