لقد أثبت الواقع والتاريخ خطورة التنظيمات الأيديولوجية على الدول والمجتمعات والأفراد، وما تحمله من بنى فكرية وتنظيمية تهدد الأمن والاستقرار، ولا أدل على ذلك من واقع تنظيم الإخوان الذين تركوا إرثاً ثقيلاً متخماً بالتطرف والفوضى والانقسامات والصراعات والمشاريع الفاشلة، ولا زالوا يسعون في بعض المجتمعات إلى إحياء مشاريعهم ولو بالحديد والنار.
وقد كان ما سُمي بالربيع العربي محطة حاسمة لفضح هذا التنظيم، أسقطت أقنعته الزائفة، وأظهرت أطماعه السياسية، ومساعيه لاستغلال الاضطرابات وإثارة الفوضى لتحقيقها بأي وسيلة كانت، حتى إذا وصل بعض أذرعه إلى قلب المشهد السياسي كان الواقع أشد ظلاماً وانفضاحاً، حيث سعوا لأخونة المؤسسات واختراقها، وتوظيف الأدوات الموجودة لمصلحة التنظيم وأجنداته، وتحريف السياسات الداخلية والخارجية لأجل مشاريعهم الظلامية، بعيداً كل البعد عن مصالح أوطانهم وشعوبهم، فكانت النتيجة سقوطاً مدوياً لهم، وكانت فضائحهم كما يقال بـ«جلاجل»، حيث لفظتهم المجتمعات، فأرادوا أن يحرقوا البلدان للاستحواذ على السلطة من جديد، وكادت بعض المجتمعات أن تغرق في صراعات مريرة لا يعلم مداها إلا الله تعالى.
إن هذه الوقائع والحقائق تبين لكل عاقل خطورة هذا التنظيم على المستويات كافة، وأن الخطر متجذر حتى الأعماق، وهو ما يكشف زيف ما يعتقده البعض من إمكانية احتواء تنظيم الإخوان وإعادة دمجه في الحياة الوطنية، دون أي تخلٍّ عن بنيته الفكرية والتنظيمية والحزبية، فإن هذا ضرب من المستحيل، ومثل هذه الأطروحات تغفل أو تتغافل عن البنية الفكرية والحركية المتجذرة لدى هذا التنظيم.
إن قراءة واقع الإخوان تكشف أن الأمر لا يتعلق بفشل سياسي هنا أو انهيار هناك، بل في المشروع الإخواني ذاته، المشروع الذي يقوم على أفكار أيديولوجية متطرفة وعلى الولاء للتنظيم وعلى رؤية تتجاوز الدولة الوطنية، وتتعامل مع المؤسسات على أنها ميادين للتوغل والتمكن، ومع المجتمع بوصفه ساحة للاستقطاب والتجنيد لمشاريعه الحزبية، وتؤمن باستراتيجيات عمل خطِرة مثل السرية والتقية والتمسكن من أجل التمكن، وعلى أساليب الخلايا التنظيمية، ومنها الخلايا النائمة، ويسير قادته على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وتطويع فقه الضرورات للتأصيل لما يسمى بفقه المرحلة والتخطيط بعيد المدى، ولذلك فمن يحاول تطويع الإخوان هو كمن يربي في بيته أفعى، قد تبدو أليفة في شكلها ولكنها سامة وقاتلة ولا تتوانى عن اللدغ متى ما سنح لها ذلك.
لقد عاشت منطقة الشرق الأوسط خلال هذين العقدين أحداثاً مؤلمة كشفت لكل عاقل طبيعة التيارات المؤدلجة، وبالأخص تنظيم الإخوان، وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحل يكمن في شيء واحد هو تفكيك هذا التنظيم، وتجفيف منابعه التمويلية والفكرية وغيرها، وانسلاخ أفراده من هذا التنظيم، انتماءً وفكراً وتأييداً، وعودتهم إلى أوطانهم قلباً وقالباً، دون أي صلة فكرية أو عضوية بأي تنظيمات.
وإن التطورات في الموقف الدولي، ومنها مواقف قوى كبرى، بتصنيف هذا التنظيم تنظيماً إرهابياً هو فرصة كبيرة للدفع نحو هذا المسار، أعني مسار التفكيك والانسلاخ، وليس مسار التطويع والاحتواء، وهنا يأتي الفرق بين الدمج الصحيح الآمن الذي يقوم على إطفاء جمر تلك الأفكار والأيديولوجيات، والدمج الموهم القائم على إبقاء الجمر تحت الرماد، ليشتعل ويحرق ما حوله.
إن الضعف الذي يمر به تنظيم الإخوان هو فرصة لهم لمحاسبة أنفسهم إن كانوا يعقلون، ليعودوا إلى أحضان أوطانهم بكل صدق، بعد أن يخلعوا تلك الأفكار والولاءات الحزبية جملة وتفصيلاً، وقد أثبت الواقع أن مثل هذه التنظيمات لا علاج لها سوى هذا، ولا تحقيق للتنمية والازدهار ونهضة الأوطان إلا بمنع تكرار التجارب المؤلمة التي شهدتها المنطقة، وقطع أسبابها من جذورها، بما في ذلك مثل هذه التنظيمات، وهذا ليس محالاً، بل أثبت الواقع إمكان ذلك، ولا أدل عليه من التنظيمات والحركات اليسارية التي انطفأ نورها في القرن الماضي، بل زال كثير منها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط ما حمله من مشروع أيديولوجي.
إن دعاوى احتواء تنظيم الإخوان دعاوى خطِرة، تحتوي -ضمنياً- محاولة إنعاش هذا التنظيم وإعادة الحياة إليه في أشكال جديدة، وهو ما يخدم هذا التنظيم، ويعيد مشكلاته من جديد، وما تحتاجه المنطقة اليوم ليس احتواء الإخوان، بل تجاوز خطابهم، والتحرر من الإرث الأيديولوجي الثقيل الذي تركوه هنا أو هناك، ولا طريق أمام هذا التنظيم إلا الزوال، فقد حان للمجتمعات العربية والإسلامية أن تطوي صفحات التنظيمات والمليشيات التي جلبت على المنطقة الخراب والدمار، أياً كان شكلها وتوجهها، حتى تنعم الأوطان والمجتمعات بالأمن والرخاء والازدهار.