المواطنة الصالحة حصن المجتمعات

تسعى المجتمعات على مر العصور للبحث عن مقومات بقائها وعوامل ازدهارها، لتغدو قوية متماسكة، يسود فيها الأمن والاستقرار، ويزدهر فيها البناء والعمران، وتقوم فيها معالم الحضارة الراقية على أسس راسخة من الأخلاق والتكاتف والوئام.

وتتجلى عبر هذه المسيرة الإنسانية حقيقة مهمة ألا وهي أن من أهم ركائز هذه النهضة المنشودة تحقيق المواطنة الصالحة في نفوس الأفراد، وترسيخها ثقافة وسلوكاً يتجذر في الأسرة، وينتشر في المجتمع على مختلف أطيافه وفئاته.

إن المواطنة الصالحة قيمة عليا، تتجلى عبر مبادئ وجدانية راسخة وأفعال حقيقية ملموسة، فهي ليست حالة مثالية منفصلة عن الواقع، أو مجرد شعارات أو أقوال يتغنى بها، بل واقع مشهود، وصورة حية نابضة في الحياة، ومن هنا كانت ركيزة حضارية لبناء علاقات مجتمعية متينة، وحصناً منيعاً يحمي المجتمعات من التفكك، ويصونها من التمزق والصراعات، ويُعلي من شأن الأخلاق والسلوكيات الإيجابية، لتكون أساساً في بناء الأوطان وتنميتها.

ولأن العلاقة بين المواطنة الصالحة والاستقرار علاقة طردية متلازمة فإن كل مجتمع يعاني من الصراع والانقسام، ومن انسداد أفق التقارب والحل، غالباً ما يعاني من غياب مفهوم المواطنة الصالحة، أو من ضعف جذورها.

فحين يضعف الانتماء، ويغيب الشعور بالمسؤولية، وتستبدل مصلحة الوطن بالمصالح الشخصية والحزبية والفئوية تتراجع الأدوار، وتنكفئ حول هذه المصالح الضيقة، وتنحسر عن التعاون المشترك في سبيل المصالح الكبرى، ليبدأ البناء في التآكل من الداخل والضعف والانهيار. وتبدأ جذور المواطنة الصالحة من الفرد، من ضميره الحي، ووعيه الأخلاقي، وتربيته في بيته على الاحترام والتسامح والتعاون، وحسن إدارة الاختلافات التي تواجهه بحكمة.

وتغليب المصالح العامة للأسرة على المصالح الخاصة والأهواء الشخصية، ثم تمتد هذه القيم إلى علاقة الفرد بمحيطه الاجتماعي ككل، فتترسخ في نفس الطفل حين يرى والده يوقر الجار، ويصدق في الحديث، ويصون الأمانة، ويحب الخير للآخرين، وتتدفق منه ممارسات العطاء والرفق والسلام، فيكون الفرد قدوة حسنة في محيطه، ومصدر إلهام لأبنائه وزملائه ومجتمعه.

ومن القيم الجوهرية للمواطنة الصالحة الانتماء العميق للوطن، والولاء الصادق لقيادته، والاعتزاز برموزه، والطموح المستمر في رفعته وازدهاره، والعمل الدؤوب على خدمته بإخلاص وتفانٍ، كل في موقعه ومجاله، وتنشأ هذه القيم من العلاقة الراسخة في وجدان الإنسان تجاه وطنه، والتي تغذيها التربية الواعية، والتعليم المسؤول، والإعلام الوطني الرشيد.

وإذا كانت الأسرة هي النواة الأولى لتعزيز هذه القيم، فإن المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية وغيرها شركاء استراتيجيون في هذه المسيرة الكبرى، من خلال البرامج والمبادرات التي تعزز القيم، وترسخ التلاحم والتعايش السلمي بين مختلف شرائح المجتمع، فتتكامل الجهود، وتجتمع على بناء ثقافة وطنية راقية، تجمع الكل تحت مظلة وطن واحد، لا من جهة التشريعات والقوانين فحسب، وإنما كذلك من جهة الثقافة والوعي، ليصبح الدافع في العلاقة المثلى مع الآخر عقلاً واعياً، وقلباً صادقاً، وفعلاً يتجاوز الواجب إلى العطاء والإحسان.

ومع ثورة التقنيات والتحولات الرقمية تبرز الحاجة إلى توسيع نطاق المواطنة الصالحة، ليشمل المجال الرقمي، فما أحوج المجتمعات إلى مواطنة رقمية صالحة تعلي من شأن الأخلاق في التفاعل الافتراضي.

وترسخ قيم المسؤولية والاحترام في العالم الإلكتروني، ليمثل الفرد وطنه في فضاء العالم الرقمي بحسن أخلاقه وجمال سلوكه، حيث لا يقل تأثير الكلمة عن الفعل، ولا يقل التأثير فيه عن الواقع. كما تتسع تجليات المواطنة الصالحة، لتشمل سلوك الإنسان خارج حدود وطنه.

حيث يكون سفيراً لقيم بلاده، وترجماناً لثقافته، ومرآة لأخلاق مجتمعه، فيؤثر في غيره، وينقل إليه أجمل ما في مجتمعه من أصالة ونبل، وهكذا يتحول إلى قوة ناعمة لوطنه، يعزز الخير، ويجسد مبادئ التسامح والتعاون، ويسهم في ترسيخ الأمن والسلام.

إن الكلمة الطيبة مفتاح ساحر للقلوب، والفعل النبيل قيد آسر للنفوس، يستجلب المودات، ويردم الخلافات، وما أحسن أن يستغل الإنسان مواسم الخير ونحن في العشر من ذي الحجة في ترسيخ هذه القيم في نفسه وأقرب الناس إليه، ويعمر بذلك مجتمعه، فيكون قدوة ملهمة يصدق فيه قول الله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماماً}، متأسياً في ذلك بسيد المرسلين، الذي قال عنه رب العالمين: {وإنك لعلى خلق عظيم}.