أوروبا.. وقراءة جديدة للتاريخ

لم يعد الأمر يحتمل الصبر من جميع الأطراف، الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني خلقت استدارة من أوروبا ذاتها في الموقف من الحرب الدائرة منذ ثمانين عاماً بين إسرائيل وفلسطين، ثمة يقظة فكرية أوروبية تعيد قراءة التاريخ، وتستدرك أخطاء الجغرافيا.

من مفارقات التاريخ، أن بريطانيا وفرنسا أعلنتا أنهما ستعترفان بدولة فلسطينية، ضمن مؤتمر عالمي في يونيو المقبل، فالدولة الأولى «بريطانيا» هي التي أعطت اليهود وعوداً بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين عام 1917، عندما أعطاهم وزير الخارجية البريطاني ما يسمى «وعد بلفور».

ودعمت هذا الوعد على مدى عقود بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وإعطائهم كتاباً أبيض، ودعمتهم بالاعتراف حين إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948، وظلت تمدهم بقوة الدبلوماسية والسلاح والمال والدعم الإعلامي.

مضى على ذلك أكثر من قرن، لكن بريطانيا الآن تستدير ويستيقظ ضميرها لفك العقد، التي صنعتها بيديها لفلسطين وللعرب، أما فرنسا فقد سارت في نفس المسار البريطاني، وكانت الدولة الأولى عالمياً في تسليح الدولة الإسرائيلية الناشئة، بل إنها أنشأت لها مفاعل ديمونة النووي.

وشاركت معها في العدوان الثلاثي على مصر، بالإضافة إلى بريطانيا عام 1956، وظلت تدعمها ثقافياً وإعلامياً ودبلوماسياً على مسارح العالم، لكنها الآن تستدير أيضاً، وتعترف بأن للفلسطينيين حقاً في دولة مستقلة، ككل شعوب العالم.

إنها دورة التاريخ عندما يقف الرئيس الفرنسي ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، ويعلنان إضافة إلى مارك كارني، رئيس وزراء كندا، أنهم في طريقهم للاعتراف بدولة فلسطينية، وأنهم سيعلنون بوضوح عن الإيمان بحل الدولتين كونه خياراً استراتيجياً للسلام في الشرق الأوسط.

الزعماء الثلاثة يكسرون جدار الصمت والخوف، وبدورها سارعت إسرائيل إلى الهجوم الإعلامي والدبلوماسي على تصريحات قادة أوروبا وكندا، وهددت بضم الضفة الغربية، والانتقام من الفلسطينيين، لكن الزعماء الثلاثة، بعد أن شاهدوا الإبادة الجماعية في غزة، التي فاقت مشاهد المجازر أثناء الحرب العالمية الثانية، قرروا كسر الخطوط الحمراء، التي صنعوها هم بأنفسهم على مدى ثمانين عاماً من دعم إسرائيل، وتبرير أفعالها في الشرق الأوسط بذريعة الدفاع عن النفس.

في السياق نفسه، سبق كل هؤلاء إسبانيا وأيرلندا والنرويج، في الاعتراف بدولة فلسطين، وضربت بذلك حجراً في البحيرة الأوروبية الراكدة والمنحازة إلى إسرائيل، بل إن رئيس وزراء إسبانيا، بدرو سانشيس، قال:

«لا يمكن أن نقف صامتين أمام ما يحدث في غزة»، وكذلك فعلت أيرلندا والنرويج، حتى إن ألمانيا، الدولة الأكثر انحيازاً لإسرائيل، بدأت في تغيير رؤيتها بعد مشاهد المجازر والقتل غير المبرر، ومحاولة طرد الفلسطينيين من أراضيهم، وتصفية قضيتهم، ورأت في ذلك خطراً على الاستقرار العالمي.

هذا التحول الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية جاء نتيجة أن أوروبا وجدت نفسها في تناقض أخلاقي، فهي تدعو إلى حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، والحكم الرشيد، وتأييد تطبيق القانون الدولي، لكنها وجدت نفسها غارقة في عقدة الذنب الإسرائيلي، فتغاضت عن المجازر والمذابح، التي ارتكبتها إسرائيل على مدى ثمانين عاماً في المنطقة.

ومنذ السابع من أكتوبر 2023 شيدت أوروبا جبال الصمت، حتى بدأت الأصوات النخبوية تتعالى لكسر جدار الصمت، والتوقف عن دعم إسرائيل، التي تتلطخ أيديها بالدماء الفلسطينية، ولسان حال هذه النخبة يقول، لا يمكن التطهر من ارتكاب جريمة في القرن العشرين، بارتكاب أخرى في القرن الحادي والعشرين.

لذا بدأت الأصوات الإعلامية والدبلوماسية والسياسية تعيد اتجاهاتها ومساراتها صوب تصحيح الخطأ التاريخي، ولو جاء متأخراً، وكان الصوت الأبرز صوت الطلاب والأساتذة في الجامعات المرموقة، الذي يغذى يقظة الضمير الأوروبي والغربي بضرورة الدفاع عن حرية وكرامة الشعب الفلسطيني، الوحيد الذي يخضع لاحتلال على وجه الكرة الأرضية.

هذا المسار الأوروبي والعالمي تجاه الاعترافات المتتالية بدولة فلسطينية يتطلب منا نحن العرب، خصوصاً الفلسطينيين، ضرورة الوحدة لإنجاح هذا الموقف الأوروبي والعالمي، لاستكمال الاعترافات.

وتوسيع دائرة الدول المؤيدة، وإنجاح خطة الإعمار المصرية، التي تبناها العرب، ومعظم دول العالم، لتتم كتابة آخر فصول التراجيديا المأساوية، التي عاشها الإقليم العربي على مدى أكثر من ثمانين عاماً، والعمل على استكمال مسار الوصول إلى المحطة الفلسطينية، التي اقتربت بعد أن طال السفر نحوها أكثر من ثمانين عاماً.

إن الفرصة مواتية لأن يعمل عليها الفلسطينيون بالوحدة السياسية الصارمة والقاطعة تحت مظلة قيادة واحدة وموحدة، تأخذ قرار الحرب والسلام من أجل مصلحة الشعب الفلسطيني، وليس من أجل أي مصلحة أخرى في المنطقة أو العالم. أخيراً أستطيع القول إنني ألمح انعطافة كبرى صوب فلسطين الدولة، والحكمة هنا تقتضي البناء على هذه الإشارات الوافدة من التاريخ، لنعيد معاً قراءته من جديد.