تجارة الوهم في عالم افتراضي

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي، كما أرادها مبتكروها يوماً، وسيلة للتقارب الإنساني وتبادل المعرفة، بل تحولت شيئاً فشيئاً إلى سوق ضخمة للكسب السريع، لا ضوابط فيها ولا حدود للأخلاق أو المسؤولية.

وكأنها سوق سوداء تدار من وراء الكواليس، مرئية للجميع، لكنها غير خاضعة لأي قانون. وبينما كان الهدف منها بناء جسور التواصل أصبحت اليوم، بكل أسف، منبراً لترويج الوهم والكذب والتضليل، ووسيلة للكسب المادي على حساب وعي الناس وصحتهم وعقولهم.

في عالم تحكمه المشاهدات والإعجابات بات بعض المستخدمين يتفننون في جذب الانتباه بأي وسيلة، حتى لو كانت عبر نشر معلومات خاطئة أو خرافات لا أصل لها. ومن أكثر الظواهر خطورة تلك الوصفات الطبية المنتشرة على المنصات الرقمية، التي تُقدَّم على أنها حلول سحرية لأمراض مستعصية.

ففي هذا العالم الافتراضي المليء بالمؤثرين لا يحتاج المرء إلى شهادة طبية أو ترخيص رسمي ليتقمص دور الخبير أو الطبيب، فيكفي أن يرتدي المعطف الأبيض أمام الكاميرا، أو يضع عنواناً مثيراً، ليصبح في نظر المتابعين «المنقذ الموثوق».

وهنا تكمن الكارثة، لأن تلك النصائح لا تقوم على أي أساس علمي، بل على رغبة جامحة في جمع المشاهدات وتحقيق الأرباح، ولو على حساب صحة الناس وحياتهم.

ومع انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي دخلنا مرحلة جديدة من التزييف، إذ أصبح بالإمكان تركيب صور ومقاطع فيديو واقعية إلى درجة الإقناع، تُظهر أشخاصاً في مواقف لم تحدث قط، أو تروج لمواد ومنتجات بطريقة خادعة يصعب كشف زيفها. وهكذا تتسع دائرة التضليل لتشمل كل ما يمكن أن يدر ربحاً سريعاً أو شهرة زائفة.

أما المؤثرون الذين يصنعون محتوى سطحياً خالياً من القيمة، فقد أصبحوا بدورهم جزءاً من المشكلة، لأنهم يقدمون نماذج سلوكية مضللة أمام جيل من الشباب والأطفال الذين ينظرون إليهم كقدوات.

فيتعلمون منهم أن التفاهة طريق الشهرة، وأن النجاح يقاس بعدد المتابعين لا بنوعية الأفكار أو الإنجازات. الأخطر من ذلك أن كثيراً من هؤلاء المؤثرين يقدمون صورة مزيفة عن الحياة، تغري المتابعين ببريق الرفاه الزائف والثراء السريع، في حين أن ما يعرضونه لا يمت إلى الواقع بصلة.

ومع تكرار هذا النمط من المحتوى تنشأ لدى الأجيال الصغيرة قناعة مشوّهة بأن طريق المجد لا يمر بالعلم ولا بالعمل الجاد، بل بمجرد تقليد السلوكيات الغريبة أو خوض التحديات السخيفة التي تثير الضحك والإعجاب المؤقت. وهكذا تتحول القيم إلى سلعة، والمبادئ إلى أرقام، وتُختزل الشخصية الإنسانية في حساب رقمي يتغذى على التعليقات والإعجابات.

وفي ظل سهولة الوصول إلى الإنترنت لم تعد رقابة الأهل وحدها كافية لحماية الأبناء من السيل الجارف من المعلومات المضللة، فالمسؤولية اليوم أصبحت جماعية، تتقاسمها الأسرة والمؤسسات التعليمية والإعلامية والجهات الرسمية، لترسيخ الوعي والتحقق من المصادر قبل تصديق أو تداول أي معلومة، خصوصاً تلك التي تمسّ صحة الإنسان أو كرامته.

لقد منحتنا التكنولوجيا أدوات لا حصر لها للمعرفة والتطور، لكنها منحت أيضاً أدوات فعالة لمن أراد استغلالها في التضليل. ومن واجبنا أن نحسن استخدامها في ما ينفع الناس، لا في ما يضرهم، وأن نقف صفاً واحداً ضد تجار الوهم الذين جعلوا من صحة الناس سلعة، ومن الجهل تجارة مربحة. فحماية الحقيقة مسؤولية الجميع، والوعي هو اللقاح الأول ضد عدوى التضليل.