الحسد الجيوسياسي: قراءة في الجزء الخامس من كتاب علمتني الحياة

كتاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الصادر حديثا بعنوان علمتني الحياة هو استمرار لسلسلة من كتب السيرة الذاتية والتأملية التي اصدرها سموه خلال عشرين سنة الماضية. كان أول كتاب لسموه بعنوان رؤيتي: التحديات في سباق التميز الصادر في أبريل 2006. تناول هذا الكتاب المرجعي طموح سموه للإنتقال بدبي والإمارات إلى العالمية ووضعها في صفوف اكثر المدن والدول تقدماً وأمناً ومن بين أكثرها نمواً واستقراً اقتصادياً. وفي أقل من عشرين سنة تحققت رؤية سموه حيث اصبحت دبي في قائمة 20 اكثر مدن العالم عولمة وحلت الامارات ضمن أفضل خمس دول عالمياً في 444 مؤشرحيوي.

وفي سنة 2019 وبالتزامن مع مرور خمسين عاما على دخول سموه العمل العام وتوليه أول منصب رسمي سنة 1968، نشر سموه ايضاً كتاباً فريداً من نوعه يحمل عنواناً جاذباً هو قصتي: 50 قصة في خمسين عاما. تضمن هذا الكتاب الشيق 50 قصة قصيرة ومثيرة عن ابرز محطات حياته منذ بداياته المبكرة ومروراً بذكرياته مع والده ووالدته وتجربته القيادية في الإدارة الحكومية التي ميزته عن غيره من زعماء وقادة العالم.

واليوم صدر لسموه كتابه الجديد الذي اختار له عنوان علمتني الحياة ليقول ان الحياة هي مدرسة وجامعة غنية بفرصها وتحدياتها، وأفرحها وأحزانها. هذا الكتاب الذي هو الجزء الأول من سلسة كتب قادمة تحمل نفس العنوان، يتضمن تأملات وتجارب سموه في الحكم والسياسة والتعامل مع المسؤولين والناس العاديين. يقول سموه بتواضع شديد يجسد تواضع حكام وشعب الإمارات صغيرهم وكبيرهم، ان أكبر درس تعلمته خلال 60 عاما من العمل العام "انني لست كاملاً، بل انساناً يتعلم ويتطور، ويتغير باستمرار، والثابت الوحيد في حياتي انني أحببت بلدي وأحببت شعبي وأحببت أسرتي"

سوف يكتب الكثير عن كتاب علمتني الحياة الذي يقع في 171 صفحة، كما كتب الكثير من المقالات والمراجعات عن كتب سموه السابقة التي شكلت إضافة مهمة للمكتبة الوطنية الإماراتية خاصة كتب أدب السيرة الذاتية التي تشهد انتعاشاً مهماً خاصة من الرعيل الأول الذي ساهم في بناء وطن آمن ومطمئن أسمه الإمارات. كتاب علمتني الحياة يستحق مثل هذا الإهتمام من القراء، ويحتاج قراءات مكثفة في نصوصه ومضمونه وأسلوبه السلس الذي يميز مؤلفات سموه.

لغز العدو الخفي

يقع كتاب علمتني الحياة في 35 جزءاً لكن ما الجزء الخامس الذي جاء بعنوان لافت هو "العدو الخفي" يستحق وقفة خاصة. فمن هو يا ترى هذا العدو الخفي الذي يتحدث عنه وقال انه يلعب دوراً كبيراً في احداث الشقاق في العلاقات بين الدول ويتحول احياناً إلى "قوة خفية قد تكون مدمرة". ما هو لغز هذا العدو الخفي؟ وما هي صفاته ولماذا خصص سموه جزءاً كاملاً له في كتابه الجديد الذي يتكون من 35 جزءاً.

لقد حدد سموه ابرز صفات وسمات هذا العدو الخفي في أربع نقاط. أول صفة من صفات العدو الخفي انه يقلل من نجاحات الآخرين. أما ثاني صفة فهو ان العدو الخفي ينتقد أي انجاز بطريقة غير مبررة وعشوائية تنم عن غيرة وحسد وجهل أكثر مما تنم عن معرفة. وثالث صفة من صفات العدو الخفي انه يسعى جاهداً عرقلة وافشال أي نموذج ناجح. وأخيراً فإن من صفات العدو الخفي ليس السعي للعرقلة المكشوفة والمستترة والنقد بالتجريح والتقليل من الإنجاز، بل يناصب النجاح العداوة والخصومة. كل ذلك كما ورد في الكتاب من منطلق "الظن ان نجاح الآخرين فشل له، وتفوق الدول المتميزة والصاعدة يظهر عجزه هو".

هذا العدو الخفي يعشعش بين الأفراد، وينمو في المؤسسات لكن الطامة الكبرى انه يؤثر في العلاقات الدولية ويسبب نزاعات وخلافات بين الدول ويؤجج مشاعر الشعوب ضد بعضها. يطلق سموه على هذا العدو الخفي اسم "الحسد الجيوسياسي" أو "Geopolitical Envy". وهي الكلمة الإنجليزية الوحيدة الواردة في ثنانيا كتاب علمتني الحياة.

الحسد الجيوسياسي إضافة إماراتية

حديثه سموه عن الحسد الجيوسياسي يرد في الصفحة 29 من الكتاب. هذا الحسد الجيوسياسي مختلف تماما عن الحسد الشخصي السائد بين الأفراد الذي يمكن تجاوزه وتجاهله دون أكتراث. لكن من الصعب جداً تجاوز الحسد الجيوسياسي الذي هو نوع بغيظ من الحسد السائد بين الدول.

يقول سموه "لعل البعض لم يسمع من قبل بمصطلح الحسد الجيوسياسي". فلا يوجد للمصطلح ذكر في كتب العلوم السياسية، ولا توجد له إشارة في ادبيات العلاقات الدولية وحتى منصة الذكاء الاصطناعي ChatGPT عجز عن الحصول على أي بحث أو مقال يتناول مفهوم الحسد الجيوسياسي باللغة العربية. لذلك سيرتبط هذا المصطلح بأسم سموه فهو أول من صكه واستخدمه وعرف به وقدمه لقارئ كتابه علمتني الحياة.

وعند منصة البحث ChatGPT الخبر اليقين. فهو يقول بالحرف الواحد: "لم أتمكّن من إيجاد مصدر موثوق يؤكد من هو أول من استخدم مصطلح الحسد الجيوسياسي “geopolitical envy” تحديداً بهذا التركيب اللغوي — لا يبدو أنه مصطلح أكاديمي متداول. الكتابات الأكاديمية تذكر الحسد السياسي في سياقات النزاعات بين الدول فقط." ثم يسترسل ChatGPT قائلا "افترض أن يكون مصطلح الحسد الجيوسياسي قد نشأ من تحليلات إعلامية أو مقالات رأي، وليس من عمل أكاديمي منشور وقد يكون من مستخدميه محلّلون سياسيون أو كتاب رأي. يبدو ان هذه المنصة الذكية لم يصله بعد كتاب علمتني الحياة.

هذا فيما يتعلق بالكتابات العربية أما باللغة الإنكليزية فوجود ChatGPT ضالته في مصدرين يتيمين فقط لا غير. يقول الباحث الذكي ChatGPT “اتضح ان عبارة geopolitical envy وردت بشكل عابر في احد مقالات مجلة الإيكونومست البريطانية في عددها الصادر 11 مارس 1999. واعيد استخدم مصطلح بشكل عابر من جديد في صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية في عدد يوم 13 مارس 1999.

يظل لسموه السبق في نحت مصطلح الحسد الجيوسياسي الذي سيوثق من الآن وصاعدا كأضافة فكرية إماراتية. يقول سموه على الصفحة 29 ان الحسد الجيوسياسي ظاهرة سياسية خطيرة لها تداعيات وانعكاسات كارثية على العلاقات بين الدول. هذه الظاهرة السياسية قد تفسر "قرارات تتخذها دول في علاقاتها مع دول أخرى وتكون لها تداعياته كارثية على الشعوب. ويسترسل سموه على الصفحة 30 موضحاً خطورة الحسد الجيوسياسي كونه " لا يستند إلى وقائع اقتصادية أو سياسية منطقية". فالحسد الجيوسياسي وهم يتلبسه صانع ومتخذ القرار على أعلى المستويات، وينطلق أساساً من ادراك خاطىء، وتصور مشوه، ليبني عليه مواقف سلبية وقرارات عنيفة تجاه دولة ناجحة.

الإمارات والحسد الجيوسياسي

يقول كتاب علمتني الحياة ان الحسد الجيوسياسي ينشأ لدى دولة بسبب "صعود ونجاح دولة اخرى خاصة إذا كان صعودها سريعا". بهذا المعنى فان النجاح الذي تحققه دولة هو مصدر الشعور بالحسد الجيوسياسي في العلاقات الدولية. فالنجاح الذي تحققه دولة او عدة دول ينظر اليه كتهديد وجودي لأنه يظهر ضعف دول أخرى. كما أن أى رؤية وطنية تقوم على التنمية والازدهار تكشف عن هشاشة وضعف دولة أو دول اخرى وتسعى لمحاربته كونها عاجزة عن تحقيق التقدم، وتفتعل من أجل ذلك خلافات غير مبررة. باختصار الحسد الجيوسياسي، وفق كتاب علمتني الحياة هو ذلك النوع من الحسد الذي ينتشر بين الحكومات والدول وليس بين الأفراد.

الكتاب لا يذكر اسم دولة أو دول بعينها، لكن القارئ الحصيف والمتبصر في أحوال الدول، خاصة في المنطقة العربية، يستطيع ان يستنبط ان الدولة المعنية في عبارة "الصعود السريع الناجح" هي الإمارات المحسودة على ما يبدو حسداً جيوسياسياً من قبل البعض. نموذج الإمارات الذي انطلق من بدايات متواضعة سنة 1971 هو اليوم النموج الجاذب والملهم والصاعد على امتداد الوطن العربي واصبح حديث الساعة مما جلب له الغيرة والحسد الجيوسياسي. يقول الكتاب على الصحفة 30 ان هذا النوع من الحسد الذي يفقد البعض الثقة بالنفس "قد يؤدي إلى فتور في العلاقات البينية"

وقد لا يكون المقصود الإمارات ونموذجها التنموي الصاعد، وانما ايضاً دول الخليج العربي التي تعيش عصرها الذهبي وتشهد حالة خاصة من الاستقرار والازدهار والبروز كمركز ثقل اقتصادي ومالي ودبلوماسي عالمي جديد تجلب بدورها الحسد الجيوسياسي من دول لم تحقق النجاح رغم انها تمتلك موارد بشرية وطبيعية توازي ما تملكه دول الخليج العربي. تلك الدول لا يسعدها تقدم دول الخليج العربي وصعودها السريع.

لكن حديث سموه عن الحسد الجيوسياسي يشمل دول عديدة في العالم المعاصر. فهناك نماذج ناجحة في قارة أسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وبين دول الجنوب العالمي، جميع هذه الدول محاطة بدول هشة وفاشلة وعاثرة وهي معنية بحديثه سموه عن الحسد الجيوسياسي كظاهرة سياسية عالمية.

يأتي الحديث عن مصطلح الحسد الجيوسياسي من واقع خبرة سموه كحاكم وسياسي ومتخذ قرار ومتأمل في الشأن العام لنحو ستين عاماً. هذا المصطلح صكه حاكم ورث الحكم اباً عن جد ولم ينحته مفكر يتابع الحياة السياسية عن بعد. يقول سموه "عندما تكون حاكماً ترى احياناً ما لا يراه الكثير من الناس". ويضيف ان صانع القرار الذي تصله تقارير يومية مطلع أكثر من غيره على ما يجري في دنيا السياسة وهو وحده يكتشف ان"هناك قوى خفية قد تكون مدمرة".

نحو نظرية لمصطلح الحسد الجيوسياسي

سيدخل مصطلح الحسد الجيوسياسي كأضافة إماراتية إلى القاموس السياسي، لكن من المهم إدخاله في النقاش السياسي والفكري العربي. كما ان هناك حاجة للتأصيله كنظرية سياسية متكاملة. مثل هذا العمل النظري يتطلب لقاءات فكرية وندوات علمية وأوراق بحثية وفريق من علماء السياسة وخبراء العلاقات الدولية لسبر ابعاد مصطلح يطرح لأول مرة في كتاب علمتني الحياة لصاحب السمو الشيخ محمد بن رشد آل مكتوم الذي بقدر من هو حاكم، هو ايضاً فارس يتقن الفوز بالمركز الأول، وهو شاعر يرى ما في الأفق البعيد، علاوة على ان سموه قائد عسكري يعرف ان الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. وأكثر من هذا وذاك وكما يتضح من كتاب علمتني الحياة، فان سموه حاكم تعلم الحكمة في مدرسة الحياة التي علمته "ان ليس هناك شعوب فاشلة، ولكن توجد دول فاشلة، وان الركون للنجاح بداية للفشل وان غرور الإنجاز سبيل للتراجع وان الامم العاقلة هي التي تجدد نشاطها وتراجع مسلماتها وتواجه أخطاءها بكل جرأة للحفاظ على حيويتها وشبابها"