بات أشبه بعيادة بلا أطباء، ضحاياه شعوب ودول، لم يمتلك الدواء الناجع للأمراض التي استشرت داخل خرائط المنطقة، والإقليم صاخب في صمته أمام انتهاك سيادة الدول، غارق في ازدواجية فاضحة في المعايير المزدوجة، أتحدث عن النظام العالمي الحالي الغائب عن مسؤولياته، وسط حسابات تزداد تعقيداً داخل المنطقة والإقليم.
إن اللحظة الحالية التي تعيشها خرائط الإقليم تضعنا أمام الحقيقة العارية، لقد تقاعس النظام الدولي حين ترك الحروب تتفاقم، وحين لم يُعاقب مجرمو الحرب بقوانين الشرعية الدولية، وحين أفرط في استخدام حق النقض «الفيتو»، في مجلس الأمن، المنوط به حماية السلم والأمن الدوليين، في مفارقة واضحة في مسارات أدت إلى تفاقم الحرب والدمار.
أبرز مثال لذلك ما يجري في فلسطين من إبادة جماعية وتجويع وتهجير قسري، ومع ذلك تستخدم بعض القوى الدولية هذا الحق في منع إيقاف الحروب، الأمر الذي يؤكد اختفاء الحاجة إلى هذا الحق المكتسب الذي جاء في سياق دولي مختلف، بل إنه يؤكد أن المشهد الدولي غارق في ازدواجية فاضحة للمعايير.
إن المشهد العالمي يدفعني إلى قراءة ما بين سطور العالم المعاصر، ويجعلني أفتش عن أوراقه في دفاتر الفوضى الضاربة التي تعم النظام الدولي، وهي فوضى اجتماعية وسياسية واقتصادية، بل إنها فوضى قانونية وتشريعية، تمزق كل القوانين والأعراف الدولية، وتجعل من الاتفاقيات الحقوقية مجرد أوراق لا معنى لها، فضلاً عن أنها لا تحترم استقرار الخرائط ولا حقوق الشعوب وترغب في استعادة عصور سحيقة من الغزو والفوضى..
تريد أن تعود بالعالم الحديث الذي تشكلت فيه الدول القومية ذات السيادة إلى ما قبل توقيع الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية «وستفاليا» عام 1648، والتي كانت نواة لنظامنا العالمي الذي تطور عبر قرون، وصاغ عصبة الأمم في البداية التي فشلت في منع الحروب، وأسهمت في اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان لا بد من تشكيل مؤسسة جديدة عام 1945، مع نهاية الحرب، تسمى منظمة الأمم المتحدة التي تفرعت عنها مؤسسات تحمي السلم والأمن الدوليين.
بعد 80 عاماً، نجد أنفسنا كأننا في أعقاب سنوات الحرب العالمية الثانية، فقد فشلت الأمم المتحدة في منع أو إيقاف أي حرب، خصوصاً في الشرق الأوسط، فبعض الدول تحوز نصيب الأسد، باعتبارها وارثة لحق النقض، ما جعل العالم يطالب بإعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة، الذي انتهى عملياً وأصابه الوهن وخرج من الخدمة ولم يعد هو الدواء الناجع لهذه المرحلة أو اللحظة.
ما بين هذا التداعي والتصدع الذي يعانيه النظام العالمي، وما بين الأخطار التي يعيشها العالم الحالي نتيجة ارتكاب بعض القوى لجرائم حرب دون محاسبة، وارتكاب بعضها الآخر لجرائم اقتصادية، ودون ملاحقة من أي قوانين..
لم يعد الحالمون باستمرار هذا النظام قادرين على الدفاع عنه، والمطلوب إقامة نظام آخر، يقوم على العدالة الدولية، وتعدد الأقطاب، واحترام إرادة الشعوب في العيش في سلام، والتأكيد على النمو الاقتصادي دون احتكار للقوة والنفوذ على حساب آخرين، كما يجري الآن في العالم.
إن ما يحدث في غزة، إبادة جماعية، وانطلاقاً منها تتوسع إسرائيل في ارتكاب جرائم حرب، وانتهاك لسيادة الدول، بهدف تنفيذ مخطط وهمي يسمى «إسرائيل الكبرى». مع الأسف تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض القوى الأوروبية كأنها تساعد إسرائيل في لعبة خطرة تمزق ما بقي من نظام دولي وصل إلى التقاعد.
تتسع يوماً بعد آخر الدعوة إلى إقامة نظام عالمي جديد، إذ لم تعد أمام خرائط الاستقرار العالمي رفاهية الانتظار، فإما عدالة دولية أو احتراق دولي، ومن ثم فلا بد من نظام دولي يقوم بمسؤولياته القانونية والسياسية والاقتصادية في توقيت شديد الخطر على سلامة المجتمع الدولي، بعد أن أثبتت الأحداث في المنطقة أننا أمام نظام عالمي متقاعد.