بمناسبة «اليوم العالمي للآثار»، نحتفي بالجهود القيمة لمن كرَّسوا حياتهم لاكتشاف قصص ماضينا المشترك. من علماء الآثار والباحثين والمجتمعات المحلية، التي كشفت بالدليل العلمي جوانب من حياة من خاضوا هذه المغامرة قبلنا في هذه المنطقة. هذه الجهود ساهمت بشكل كبير في الحفاظ على تراثنا، وضمان استمرار سرديات الحضارات القديمة، في إلهامنا وإثارة فضولنا، وساعدت جميع الساعين على فهمها. إنهم حراس التاريخ، وحملة شعلة الشغف بالاكتشاف، التي من واجبنا أن تظل متقدة، لتحمل حكايات التاريخ للأجيال القادمة.
ربما يكون البعد الأكثر أهميةً في علم الآثار، هو ذلك الذي يتجاوز عملية اكتشاف دليل محدَّد من الماضي، ويأخذنا إلى مساحات نتعرف فيها إلى تاريخ عالمنا، وجوهر إنسانيتنا. إذ تُعلّمنا قصص أجدادنا، التي نكتشفها ونجمع أركانها واحدة تلو الأخرى، دروساً قيمة حول قدرة الإنسان على التغلب على الشدائد وتجاوز التحديات. فتكشف القطع والبقايا الأثرية، التي يستخرجها أفراد كرّسوا أوقاتهم وشغفهم وحياتهم لهذا المجال، كيف استطاعت الحضارات والثقافات القديمة التغلب على ظواهر تشبه كثيراً ما نعايشه اليوم، مثل تغيّر المناخ، وندرة الموارد والاضطرابات الاجتماعية. ومن خلال فهم استراتيجياتهم في النجاة والبقاء ودراسة تجاربهم، يمكننا استخلاص الحكمة اللازمة لإنقاذ عالمنا المعاصر.
تشكّل مليحة كنزاً حضارياً متجذراً عبر التاريخ والعصور. تقع وسط الكثبان الرملية الذهبية، والصخور الأحفورية في قلب إمارة الشارقة، وتقف شاهدة على إبداعات البشرية، التي تعود إلى أكثر من 200 ألف عام. وتتردد فيها أصداء أجدادنا عبر الزمن، لتذكرنا برحلتنا المشتركة عبر العصور، انطلاقاً من العصر الحجري القديم والحديث، مروراً بالعصر البرونزي والحديدي، إلى عصور ما قبل الإسلام، وصولاً إلى العصر الحديث.
أثبتت الاكتشافات الأثرية أن مليحة كانت موطناً سكنه الأجداد، بعد رحلاتهم من أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية وأوروبا وشرق آسيا، وغيرها من مناطق العالم، وفي ظل ذروة العصر الجليدي، تكوّن جسر بري بسبب امتصاص الصفائح الجليدية لمياه البحار والمحيطات، ما شجّع البشر الأوائل على عبور المساحات التي تشكّلت بين القارات، واستكشاف آفاق جديدة، وهنا في البيئة الخصبة التي سبقت تشكّل رمال الصحراء، تم اختراع أدوات حجرية، سردت لنا قصص الشجاعة والبطولة، مؤكدة أن مليحة لم تكن مكاناً للاستراحة على المدى القصير، وإنما قاعدة أساسية، شكّلت حجر أساس في رحلتنا البشرية المشتركة.
إن شغفي بفن السرد القصصي، ساعدني على فهم السرديات التي كشفتها بعثات الآثار، فكما يصحب كل كتاب القراء في رحلة عبر الزمن إلى عالم الخيال، تروي القطع والبقايا الأثرية التي تم اكتشافها في مليحة، حكاية شيقة عن التاريخ البشري، حيث يُعد كلٌّ من الأدب وعلم الآثار أدوات فعالة لفهم عالمنا، وأنفسنا، تعزز التزامنا بالحفاظ على هويتنا الثقافية، وإثراء سردياتنا الجماعية.