يشهد العالم تحوّلاً جذرياً في مختلف القطاعات الصناعية والخدمية بفعل التقدّم المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي (AI)، الأمر الذي يجعل منه ركيزةً أساسية في اقتصاد المستقبل. فمن جهة، أسهم الذكاء الاصطناعي في رفع مستويات الإنتاج وتقليل التكاليف التشغيلية عبر الأتمتة وتحليل البيانات الضخمة، ما أدّى إلى تحسين جودة المنتجات والخدمات.
كما فتح الباب واسعاً أمام فرصٍ لا محدودة لروّاد الأعمال والمستثمرين، عبر تطوير تطبيقات ذكية قادرة على تلبية احتياجات الأسواق الحديثة، بل استشرافها قبل أن تظهر بشكل فعلي. وفي ظلّ تنافس الشركات الكبرى في توفير أدوات وحلول حوسبيّة متطوّرة، تزداد وتيرة الابتكار وترتقي معدّلات النمو الاقتصادي في القطاعات الواعدة، مثل التجارة الإلكترونية والتعليم الرقمي والرعاية الصحية والصناعات الذكية.
وعلى الرغم من هذه المزايا، يُثار جدلٌ واسع في ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قد يهدّد المنافسة العادلة في الأسواق. يتخوّف بعضهم من أن تؤدّي هيمنة عمالقة التكنولوجيا – بفضل قدراتهم الضخمة على جمع البيانات وتحليلها – إلى إضعاف الشركات الأصغر حجماً، أو حتى إغلاق باب المنافسة أمام الداخلين الجُدد.
إذ تستطيع الكيانات الكبرى استثمار موارد هائلة في تطوير خوارزميات متقدّمة وإبرام صفقات الدمج والاستحواذ، ما يضعها في موقع احتكار معلوماتي يُمكّنها من اتخاذ قرارات أكثر دقة وفعالية، ويزيد في الوقت نفسه من صعوبة اللحاق بها أو منازعتها. ومن شأن هذا التفاوت أن يُحدث فجوةً هيكلية في الأسواق، قد تؤثر سلباً في المستهلكين عبر تقليل الخيارات المتاحة ورفع الأسعار بمرور الوقت.
علاوةً على ذلك، تثير تقنيات الذكاء الاصطناعي تساؤلاتٍ عن تشريعات الخصوصية والأمن الإلكتروني. ففي عالم تحكمه البيانات، يصبح جمع المعلومات وتحليلها وقوداً يحرّك عجلة الابتكار والمكاسب الاقتصادية. غير أنّه قد يضعف الثقة بين المستهلكين والشركات إذا لم يتم تطبيق معايير صارمة للشفافية والأخلاقيات الرقمية. وهو ما يستلزم سنّ أُطر قانونية تضمن حماية البيانات وتمنع استغلالها بصورة تضرّ بالمنافسة الحرّة وتزيد من حالات الاحتكار.
فأعتقد شخصياً بأن مستقبل الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات هائلة لتحقيق قفزة اقتصادية نوعية، إلا أنّه يستلزم مراجعة شاملة للتشريعات وسياسات التنافسية بما يكفل توزيعاً أكثر توازناً للفرص. وبذلك، يمكن استثمار قدرات الذكاء الاصطناعي لدفع عجلة الابتكار والتنمية، ومن دون الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص الذي يُعدّ العمود الفقري لأي سوقٍ مزدهرة.