الإقامة على الرمال السياسية

ليس عادياً ما يحدث في الإقليم من صراعات وحروب وسباقات على النفوذ وفرض الإرادة، المتأمل للصورة بكل أبعادها يصاب بالقلق على استقرار الخرائط، لا سيما إذا أدرك أن أزمات الحاضر هي وفق كتالوج قديم يتجدد له جدول أعمال عنوانه:

أوهام التوسع وإعادة رسم مساحات النفوذ، التقديرات لدى المختبرات، وداخل عقول مصممي الثورات الملونة، تهدف إلى إعادة رسم الخرائط بتوقيع فلسفة الفوضى الخلاقة، وفق نظريات برنارد لويس، وبريجينسكي، اللذين كانا يؤمنان بالطرق الخفيف المستمر أسفل جدران الخرائط.

هذه التقديرات لم تغفل رؤية كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، التي هدفت إلى إشاعة ما يسمى الفوضى الخلاقة، وصولاً إلى صناعة مجتمعات ودول تدور في الفلك الأمريكي والإسرائيلي.

هذا المسار الهجين بين كل هذه النظريات، قاد المنطقة إلى محطة البارود الاستراتيجي، وهي محطة عام 2011، التي انفجرت في وجه شعوب المنطقة، وأحدثت زلازل من نوع خاص لم تشهدها من قبل منطقة شرق المتوسط.

وإن شهدتها أقاليم عالمية أخرى في شرق أوروبا، وأوكرانيا وجورجيا والاتحاد السوفييتي بالطبع، لكن هذه الطبعة من الربيع الملون اختلطت فيها الحروب الناعمة والخشنة، وخلّفت حروباً أهلية وصراعات دولية، واعتداءات من قوى خارجية على الدول التي أصيبت بهذه الفوضى.

لا تزال ارتدادات هذا الزلزال الملون تضرب بعنف خرائط المنطقة، في الجنوب السوري، تندفع إسرائيل معتدية على الأراضي السورية، وتقوم بضمها، خصوصاً في محافظة السويداء، في استغلال واضح للاحتقان الطائفي الذي تبدّى بعد سقوط النظام القديم.

ولا تكتفي إسرائيل بهذا القدر، بل تقوم بقصف المقدرات الاستراتيجية السورية في جميع أنحاء الدولة السورية، بهدف ضم الجولان، والجنوب السوري إلى الأبد، وصناعة حرب أهلية بين بقية الطوائف السورية المختلفة، تمهيداً لنهب ثروات سوريا من المياه التي تدعي إسرائيل أنها بحاجة إليها.

كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد أشار إلى خريطة إسرائيل وقال: إنها صغيرة، ولا بد من توسيعها، ومن الحالة السورية إلى الحالة اللبنانية.

حيث لا تتوقف إسرائيل عن قصف لبنان، برغم وجود القرار الدولي 1701، الذي يحدد المسارات في الجنوب اللبناني، فإسرائيل تمزق القانون الدولي في لبنان، بهدف ضم جنوب الليطاني إليها.

إذا عدنا إلى المأساة الحقيقية في الأراضي الفلسطينية، نجد أن إسرائيل تريد طرد سكان غزة من أراضيهم، وضمها إليها، ثم طرد سكان الضفة الغربية إلى الأردن، وتصفية عرب 1948، من داخل الخط الأخضر، وهو حلم إسرائيلي يرى نتنياهو واليمين المتطرف أن الوقت مناسب لتنفيذه من أجل صناعة إسرائيل الكبرى على الأراضي الفلسطينية التاريخية.

وفي مرحلة أخرى التوسع حسب خريطة التوراة، فلا شك أن هذه الأحلام تصطدم بواقع يؤكد أن زلزال الحرب الإسرائيلية على دول الجوار، برغم ارتداداته الصعبة، فإنه لا يمكن أن تتحقق هذه الأحلام على أرض الواقع، فإذا كانت إسرائيل قد استفادت من غزو أمريكا للعراق، ووقوع ما يسمى الربيع العربي.

وانتشار جماعات الإرهاب والعنف التي عملت على تقويض المنطقة، فإن شعوب الإقليم العربي وشعوب العالم انتبهت إلى خطر الأطماع الإسرائيلية، وتهديدها للاستقرار الدولي.

وقد لفتت نظري مجموعات الشباب، والطلاب في جامعات العالم، وهم يخرجون مناهضين لسياسة الإبادة الإسرائيلية، ولعل أغاني الفرق الموسيقية على مسارح العالم، التي فاجأت الإسرائيليين أنفسهم، تأتي تأكيداً على تغيير المزاج السياسي العالمي في المستقبل.

فهؤلاء الشباب لم يعاصروا مسألة العداء للسامية، ولا يعنيهم الأمر، بل ينظرون إلى الدم المسفوح في غزة على أنه جريمة حرب لا تسقط بالتقادم، وتستوجب العقاب بالقانون الدولي. زلزال الخرائط السياسية يتمدد، لكن المهم هو الإدراك الصحيح لأخطار الإقامة على الرمال السياسية المتحركة.