كنت أظن أن شوكولاته «باتشي» فرنسية، حتى أخبرني الصديق مشاري الروضان وكيلها التجاري في الكويت، بأنها صنعت بأنامل لبنانية. منذ ذلك الحين تضاعف حبي وتقديري لها، ليس لجودتها فحسب، بل لأن الصناعة العربية بدأت تناطح جودة منتجات عالمية فاخرة.
رحل قبل أيام مؤسس باتشي نزار شقير الذي كان يعشق الشوكولاته منذ نعومة أظفاره. من ذلك المتجر الصغير في شارع الحمراء الذي افتتح أبوابه في منتصف السبعينات، نقل شقير تجارته إلى سلسلة من المتاجر بلغت 140 متجراً في 35 دولة، لتبلغ من الفخامة والتنوع في منتجاته ما تخطى متاجر أوروبية عريقة.
وبلغت القدرة الإنتاجية لمصنع الشوكولاته في لبنان يومياً ستة أطنان لتلبية الطلب العالمي المتزايد، وهو ما يوازي نحو 2190 كيلوغراماً سنوياً، أي ما يساوي وزن أكثر من ألف سيارة (لتقريب حجم الإنتاج)!
والمفارقة أن ينافس العرب نظراءهم الأوروبيين على منتجات لا تزرع موادها الأولية في بلادهم (الكوكا)، بل يجلبونها من أقاصي غابات أفريقيا. وهو دليل على أن كل شيء ممكن في عالم العزيمة والإصرار.
عندما ننجح يُعيد المشككون النظر في احترامنا. روعة النجاح أن منه تتفرع أغصان جديدة، فصار لباتشي مقهى عالمي، وهدايا فاخرة، ومقدرة على مشاركتنا في الاحتفالات الكبرى.
كنت دوماً أتساءل كيف نجح السويسريون في جلب بذور الكاكاو الأولى من أفريقيا، ليمزجوها بالسكريات والخلطات السرية، لتظهر صناعات الشوكولاته، رغم قلة الثلاجات حينها. ونجح قبلهم الفارسيون في حلوى الفالوذج بمزج الثلوج «المجروشة» بعصائر مركزة وشيء من الزعفران اللذيذ.
ونجح الأمريكيون في تقديم مثلجات الآيسكريم في ذروة حرارة الصيف اللاهب عبر مكائن عصرية، وتفوق الإيطاليون في تقديم جبنة البارميزان والمازورولا بالاعتماد على تقنيات بدائية في التخزين والتخمير.
لم تكن لدى اليابان المواد الأولية لصناعة السيارات، ولا لجارتها كوريا مواد لصناعة التكنولوجيا، فنجحتا في استيرادها لتصبحا عملاقي الصناعة في العالم.
ونجح البرازيليون في تحويل البن إلى أشهر صادراتهم الغذائية، فاكتسبت القهوة البرازيلية شهرة عالمية. وفي الهند كذلك تم تحويل البرمجيات من صناعة محلية إلى صناعة عالمية قوية تنافس كبريات الشركات، فأضحت الشركات الهندية رافداً موثوقاً للتقنية لشتى البلدان.
وفي نيوزيلندا، طورت الشركات صناعة الألبان لتصبح واحدة من أكبر مصدري منتجات الألبان عالمياً. وكذلك فعلت إيطاليا في حقبة تصنيع الجلود الفاخرة، قبل أن يجيء المارد الصيني «بقضِّه وقضيضه».
في ميادين التجارة والإبداع، يمكن أن تصنع من رمال الصحراء سياحة وعوائد مالية. نجح الإماراتيون في إقناع الأجانب بالتزحلق على رمال الصحراء تماماً كما يحدث في التزحلق على الثلوج.
كان يفعل ذلك شباب القصيم في السعودية للنعومة الفائقة لرمال «النفود» (الكثبان الرملية)، لكن أحداً منهم لم يفكر أن يحوله إلى تجارة. القصمان أهل تجارة لكنهم نجحوا في إحياء مجد النخلة بتصدير أفخر وأجود أنواع التمور إلى شتى بلدان العالم. حتى تجرأ مستثمر سعودي وأسس مقهى عالمياً يتمحور حول التمرة (بتيل كافيه).
ولذلك، عندما يحاول مستثمر تأسيس مصنع يسعى جاهداً إلى تأمين مواده الأولية محلياً، فإن لم يجد أمّن ذلك بعقود استيراد طويلة الأجل، وتأمين سلاسل الإمداد، ومد جسور التعاون الدولي عبر تبادل الخبرات والشراكات والتكنولوجيا، ليصمد المصنع في وجه التنافس الضاري.
المنطقة العربية تزخر بالعقول، والأموال، والتاريخ الحافل، وهي دائماً موجودة في مخيلة الأجنبي الذي يتطلع إلى اكتشاف خيراتها. كل ما في الأمر أنه يحتاج إلى جودة في منتجاتنا تضاهي العالمية.