واقعية سياسية بأثر رجعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تعرف ما إذا كان إيهود أولمرت، رئيس وزراء اسرائيل الأسبق، قد قال ما قاله لهيئة البث الإسرائيلية الرسمية يوم السبت 25 مايو، على سبيل الكيد لبنيامين نتانياهو، أم أنه كان يمارس نوعاً من الواقعية بأثر رجعي؟

لا نعرف.. ولكن ما نعرفه أن علينا أن نصدقه على أساس ما قاله الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، الذي وقف ذات يوم يقول: «أظهروا لنا أحسن ما عندكم والله أعلم بالسرائر».

أهم ما قاله أولمرت أن إسرائيل لا يمكنها تحقيق النصر في غزة، ولا القضاء الكامل على «حماس»، وأن أفضل ما يمكن أن تفعله بلاده أن توقف الحرب بسرعة، وهو لم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه دعا بيني غانتس، وغادي أيزنكوت، الوزيرين في مجلس الحرب الإسرائيلي إلى الانسحاب من الحكومة، لعلها تسقط فتتوقف الحرب بالتالي.

هذا الكلام يمكن أن يؤخذ على وجهين، أحدهما أن صاحبه لا يريد به سوى الكيد لنتانياهو، والسبب أن أولمرت الذي ترأس الحكومة في تل أبيب من 2006 إلى 2009، جرى اتهامه في قضايا فساد، فأخذوه إلى العدالة، ولا نزال نذكر أنه دخل السجن، وقضى العقوبة المقررة في القانون.

قضى عقوبته التي قضت بها العدالة، وكان الإسرائيليون يضربون به المثل في حينه ولا يزالون، وكانوا يقولون إنه لا أحد في بلادهم فوق القانون، وإن رئيس الحكومة نفسه قد خضع له، رغم أنه أعلى رأس في البلد بحكم أنه بلد برلماني من حيث نظام الحكم، ولكن ذلك زمن قد مضى وانقضى، لأن نتانياهو ذاته متهم في أربع قضايا فساد، ومع ذلك فهو لم يخضع لما خضع له أولمرت، ولا يزال يتحايل لعله يهرب من قبضة العدالة.. ليس هذا وفقط، ولكن نتانياهو متهم كذلك بالتقصير في مسؤوليته عن وقوع هجوم 7 أكتوبر، الذي قامت به كتائب عز الدين القسام على المستوطنات الإسرائيلية المجاورة لقطاع غزة.

هو متهم بهذا كله، ومع ذلك لم يقف أمام القضاء كما وقف أولمرت، الذي لا بد أن ذلك يشغله بشكل من الأشكال. ومن الوارد أن يكون قد أدلى بما أدلى به لهيئة البث على سبيل الكيد لنتانياهو، بحكم طبائع البشر التي لا تختلف، وإن اختلف البشر في أشياء كثيرة.

ومن الجائز على الجانب الآخر أن يكون رئيس الوزراء الأسبق قد قال هذا الكلام على أساس أن هذه هي الواقعية السياسية، التي يقول بها المنطق السياسي، والتي لا سبيل سواها لوقف هذه الحرب التي لا تريد أن تتوقف.

وإذا مال أحدنا إلى هذا التفسير الثاني فسوف يدهشه أن تكون الواقعية من جانب أولمرت بأثر رجعي، وإلا فلقد كان على رأس الحكومة في تل أبيب لثلاث سنوات، وكان في مقدوره أن يمارس واقعيته هذه في وقته، فيتبنى حل الدولتين مثلاً، ولو فعل ما كان هجوم السابع من أكتوبر سيقع، لأنه ليس إلا نتيجة لمقدمات سبقته في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في كل الأحوال فإن ما مضى قد مضى، وليس علينا الآن سوى التطلع إلى أن تصادف واقعية رئيس الوزراء الأسبق صدى لدى الحكومة في الدولة العبرية.

وهذا أمر مستبعد جداً بطبيعة الحال، ويكاد يكون مستحيلاً، لأن الحكومة يحكمها التطرف من كل ناحية، وهي إذا لم يحكمها من ناحية الوزيرين بيني غانتس وغادي آيزنكوت، فإنه يحكمها من ناحية وزيرين أشد تطرفاً هما إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية في حكومة نتانياهو.

هذان الوزيران الأخيران يزايدان في التطرف على رئيس الحكومة ذاته، بحيث إذا وقف هو على اليمين راحا يقفان في المقابل يمين اليمين وأكثر.. ولو ذهبنا نحصي الوقائع التي تشير إلى ذلك، فسوف لا تكون لمثل هذه الوقائع نهاية.

كلام أولمرت هو عين العقل كما يقال، وهو الواقعية السياسية بعينها، ولكنها واقعية في أرض متطرفة هي الأرض التي تقف فوقها حكومة نتانياهو، ولكن يبقى الأمل قائماً في كل الأوقات.

وربما أرغم الواقع هذه الحكومة على أن تكون واقعية، وربما يستجيب الوزيران غانتس وآيزنكوت لنداء أولمرت، ليكونا هما الجسر إلى الواقعية التي لا بديل عنها.

Email