إنه عدوان «الانتقام» وليس حرباً

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بدء العدوان الإسرائيلي الدموي على قطاع غزة قبل خمسة شهور، وفصول الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني فيها تتوالى بدون توقف، وكلما وقعت مجزرة كبرى اهتز العالم، وتتابعت ردود أفعاله الرافضة لها والمدينة لها، إلا أننا لم نصل قط حتى الآن للمجزرة الأخيرة، بعد كل هذه الإدانات والصدمات الرسمية والشعبية حول العالم، فلا تزال هناك مجزرة جديدة تقع بعد تلك التي ظننا أنها الأخيرة.

ويبدو واضحاً بعد قتل ما يزيد على 30 ألف فلسطيني، وجرح أكثر من 71 ألفاً، منهم 25 ألفاً من النساء والأطفال، باعتراف وزير الدفاع الأمريكي في لجنة استماع بالكونغرس قبل أيام، أن العدوان الإسرائيلي الذي تقوده حكومة بنيامين نتانياهو الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، بحسب وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن لها، لا يهدف فقط إلى تحقيق ما زعمه رئيس الوزراء من أهداف ثلاثة، فقتل كل هؤلاء الآلاف، وتدمير غزة وأجزاء كبيرة من بنيتها التحتية ومنازلها ومخيماتها، وحصاره إلى مرحلة المجاعة، التي يصفها مسؤولو الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية بأنها الأسوأ على وجه الأرض، لم يتوازَ مع تحقيق أي هدف من تلك التي أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، فالقضاء على البنية العسكرية للفصائل الفلسطينية في غزة، وهو الهدف الأول، توضح كل المؤشرات الميدانية، بعد خمسة شهور من العدوان كثيف الأسلحة والذخائر والجنود، والقدرات اللوجستية والاستخباراتية، أن المقاومة المسلحة له لا تزال قائمة، وتنتقل من منطقة لأخرى في القطاع دون أن يستطيع الجيش الإسرائيلي إيقافها، فبعد أسابيع طويلة من إعلان هذا الجيش أنه استطاع «تطهير» وتأمين مناطق شمال غزة، وخصوصاً مدينة غزة وما حولها، تدور خلال الأيام الأخيرة أشرس المعارك في هذه المناطق، ولا يختلف الأمر كثيراً في الوسط والجنوب، التي انتقلت إليها القوات الرئيسية لهذا الجيش، فلا تزال خان يونس والمناطق المحيطة بها، ودير البلح، وغيرها، تشهد اشتباكات مكلفة للغاية للجيش الإسرائيلي، من حيث الأفراد أو المعدات.

وتوضح الخسائر غير المسبوقة للجيش الإسرائيلي والمتواصلة يومياً، ومعها الفشل الذريع في تحقيق الهدف الثاني، وهو «تحرير» المحتجزين الإسرائيليين في غزة، بالرغم من كل الإمكانات الهائلة لهذا الجيش، أن هدف نتانياهو الثالث، وهو تأمين إسرائيل من أي هجمات مستقبلية من قطاع غزة، بات أقرب للخيال منه للواقع، الذي يمكن تحقيقه.

ولا شك في أن تقديرات الأجهزة العسكرية والاستخباراتية والأمنية لعدم تحقق أي هدف من الأهداف الثلاثة المعلنة، لا تخرج عما أتى في السطور السابقة، ولا تبتعد كثيراً عما تقدره أجهزة المخابرات الدولية الأخرى، والتي ترى الأوضاع من نفس الزاوية، ولها نفس التقديرات تقريباً.

من هنا فإن إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته الأكثر تطرفاً على المضي في العدوان على غزة بكل هذه الوحشية والدموية، يحمل أهدافاً أخرى غير تلك المعلنة، والواضح أن الهدف الوحيد والرئيس هو الانتقام المفرط والمتطرف من هجمات المقاومة يوم السابع من أكتوبر، والتي أطاحت نظرية «الدولة الآمنة» القادرة بلا منازع على حماية سكانها، ومحاولة إعادة الثقة، التي انهارت للمجتمع اليهودي الإسرائيلي في هذه القدرة، التي تهاوت وتلك النظرية التي انهارت. ولم يجد تفكير نتانياهو وحلفه الحكومي شديد التطرف من وسيلة لإعادة هذه الثقة، وذلك الاعتبار، سوى الإيغال في الدم الفلسطيني إلى ذلك الحد غير المسبوق لا في تاريخ الصراع، ولا في التاريخ العالمي، وتدمير كل شيء في قطاع غزة فوق رؤوس أهله.

إنه عدوان الانتقام النفسي، وتعويض الفشل الهائل الواقعي، ومحاولة تجاوز الواقع الجديد بمزيد من القتل والتدمير، وليس كما تكون الحروب التي تتجه لتحقيق أهداف سياسية، فالأهداف السياسية للحكومة الأكثر تطرفاً في إسرائيل اليوم، تغيب بعيداً وراء مشاعر الكراهية العميقة والرغبة المرضية المفرطة في الانتقام.

 

Email