طحين، عدس، سمن، وأحياناً سردين، تمر، وأشياء موسمية أخرى. الكمية حسب عدد الأفراد في «كرت المؤن». كنا نترقب آخر الشهر طيلة الشهر. إنه يوم التوزيع. هل «استلمتم» المؤن؟ كان سؤال أهل المخيم لجيرانهم. إن كان الجواب، لا، يبادر الجار «الحق حالك قبل ما يخلصوا التسليم». فلا يوم محدد ولا كمية محددة، أكثرها لا يكفي عشرة أيام من تكاليف الحياة. كله حسب ما يتم توفيره من قبل المانحين لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا».

مكان التسليم مبنى أرضي على الأطراف، أشبه بالسجن القريب من مقر «مدير المخيم». قاعة مستطيلة مغلقة من ثلاث جهات، الرابعة يفضي إليها ممر طويل عرضه نصف متر لا يتسع إلا لشخص واحد محاط بشبكة أسلاك مربعة متينة «حفاظاً على الدور» الذي يستغرق الوصول من خلاله إلى بداية التسليم ساعتين وأكثر. في حر الصيف معاناة وفي برد الشتاء معاناة أشد. لكن ما باليد حيلة ولا في الجيب ما يكفي لحاجة أسرة لاجئة.

من عليه الدور من الأسرة لتسلم مؤن الشهر كان يحمل معه أكياساً صغيرة، تخيطها الأم من أكياس الطحين الفارغة بالإبرة والخيط. بعد مشقة يخرج الشخص مغبراً بالطحين مزهواً «منتصراً» على الحاجة!

استلمنا المؤن، الآن كيف نحملها إلى البيت، البيت في المخيم الذي كان في البداية خيمة ثم تطور إلى قوالب اسمنتية ليست سميكة بعرض 10 سنتيمترات. غرفة أو غرفتان، أيضاً حسب أفراد العائلة في كرت المؤن، ممر ومطبخ وحمام صغير، كلها في مساحة ستين أو سبعين متراً مربعاً.

في ذلك الوقت، حيث النكبة، طفلة، على أمل «العودة» إلى المدن والقرى المحتلة، لم يكن ثمة سيارات أجرة ولا «وانيتات». كان يقف على باب الخروج من مركز التسليم حماران أو ثلاثة وعدد قليل من العربات ذات الثلاث عجلات أصحابها معروفون لدى أهل المخيم. يتسابق اللاجئون إلى صاحب الحمار، يساومونه على الأجرة «دينار، لأ كثير، بيكفي نص دينار، بيتنا قريب، طيب خليها دينار إلا ربع». إن كان البيت قريباً فعلاً يوافق وإن كان بعيداً يتفق مع زبون آخر. وهكذا الأمر مع أصحاب العربات.

من كان يفتحها الله عليه بدكان أو تجارة أو وظيفة كان يعطي الكرت لمحتاج آخر. بشكل مؤقت طبعاً، فلا تنازل عنه رسمياً وإلا فإنه تنازل عن حق العودة.

منذ نكبة 1948 تقدم وكالة «الأونروا»، التي أنشأتها الأمم المتحدة في ديسمبر 1949 المؤن لحوالي ستة ملايين فلسطيني في مخيمات اللجوء، البالغ عددها 58 مخيماً في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية والقدس. إضافة إلى المراكز الصحية والمدارس حتى المرحلة المتوسطة فقط.

حسب القانون الدولي، فإن خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينية «الأونروا» تؤكد أنهم لاجئون يحتفظون بحق العودة إلى بلادهم التي تم تهجيرهم منها. أي إلى فلسطين التاريخية «إسرائيل» الحالية حسب الأمر الواقع!

من هنا تأتي خطورة وقف تمويل «الأونروا» من قبل عدة دول فور ادعاء إسرائيل أن 12 من موظفي الوكالة شاركوا في هجوم السابع من أكتوبر، حتى دون التحقيق والتحقق من الادعاءات الإسرائيلية. ما يعني عدم تمكن الوكالة من تقديم خدماتها للفلسطينيين في كل المخيمات، وليس في غزة وحدها، والتي أعلنت نهاية الشهر الحالي موعداً له. الأمر الذي يؤدي إلى تفشي سرطان الفقر والجوع في كل المخيمات، وما يشكل عامل ضغط شديداً على الدول المستضيفة للاجئين.

المخيمات هي سر الصراع وسر محاولات إثبات الوجود الإسرائيلي، لذلك تسعى إسرائيل سياسياً، كما سعت من قبل، لإلغاء «الأونروا» كمقدمة لإلغاء اعتراف القانون الدولي بحق سكانها بالعودة، وعسكرياً من خلال قصفها لمخيمات غزة بما فيها من مقرات ومدارس ومؤسسات «الأونروا»، ومن خلال الاعتقالات شبه اليومية للاجئي مخيمات الضفة.