شخصيات تحت المجهر

كمال حمزة أبو المعالي.. سوداني لن تنساه دبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تاريخ التنمية والتحديث في بلدان الخليج العربي ثمة شخصيات عربية أسهمت بتخصصاتها المتنوعة في مختلف مناحي الحياة، منهم، على وجه التحديد، شخصيات من السودان الشقيق ارتبطت مع أهل المنطقة بعلاقات نموذجية امتدت منذ بواكير حقبة النهضة الخليجية وحتى اليوم، وما زالت آثارها خالدة وبصماتها واضحة وتحكي قصصاً عن مثابرتهم ونقاء ضمائرهم وسمو أخلاقهم وتفانيهم في ما أوكل إليهم من مهام، فقد حل بالمنطقة الكثيرون منهم، إما بحثاً عن الرزق الحلال، أو استدعاءً لخبراتهم وكفاءاتهم المشهودة، فكان هناك الطبيب والمهندس والمدرس والإداري والمصرفي والمترجم والقاضي والمستشار والإعلامي والرياضي، فأبلى كل في مجاله بلاءً حسناً بكبرياء وتعفف.

وكان منهم من عاد إلى وطنه مرفوع الرأس مشفوعاً بآيات التقدير والثناء والاحترام، ومنهم من بقي مع أسرته مواطنين صالحين يخدمون التراب الذي احتضنهم والقلوب التي أحبتهم، دون أن ينسوا وطنهم الأم بما جاد به الله عليهم من نعم وخيرات.

ولعل ما رسخ روابط الشعبين تلك المواقف التضامنية الأصيلة التي اتخذتها الحكومات السودانية المتعاقبة للتعاون ومساندة الخليج العربي. هذا ناهيك عن المشاريع التنموية العديدة في السودان التي أنفقت عليها صناديق التنمية الخليجية المختلفة لخير الشعب السوداني، فعززت روابط الشعبين أضعافاً.

والحقيقة أن الأسماء السودانية التي يحتفظ لها دولنا الخليجية بالعرفان لإسهاماتها في مشاريع التنمية والتحديث والثقافة السابقة والحالية أكثر من أن تحصى، منها على سبيل المثال اللاحصري: البروفيسور علي إبراهيم شمو (أول وكيل لوزارة الإعلام في دولة الإمارات في السبعينيات زمن وزير إعلامها الأول الشيخ أحمد بن حامد)، والمهندس السني بانقا (أول رئيس بلدية لمدينة أبوظبي)، والمهندس أحمد عوض الكريم (مدير طرق ومجاري أبوظبي)، والدكتور عوض الحسن النور (القاضي بمحكمة الاستئناف بدبي)، والدكتور إدريس إبراهيم جميل (المستشار القانوني للعديد من الشركات الكبرى في السعودية وقطر)، والبروفيسور معز عمر بخيت (أستاذ علم المناعة بكلية الطب في جامعة الخليج العربي واستشاري أمراض الدماغ والجهاز العصبي بالمستشفى العسكري في مملكة البحرين)، وعز الدين عمر أحمد موسى (العميد الأسبق لكلية الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية في الرياض)، والدكتورة سعاد الفاتح (أول عميدة لكلية التربية للبنات في الرياض)، وصالح فرح (المستشار القانوني لإمارة أبوظبي وأحد الفقهاء المشاركين في كتابة دستور دولة الإمارات)، والدكتور محمد أحمد سالم (المستشار القانوني بإدارة الإعداد البرلماني في مجلس الأمة الكويتي)، وإبراهيم يحيى الكوارتي (أول مدرب كرة سوداني في الإمارات)، وأحمد الجوكر (أول مدرب عربي لكرة القدم في المنطقة الشرقية من السعودية)، علاوة على العشرات من الصحافيين الذين عملوا في صحف السعودية والكويت وقطر والبحرين والإمارات، والعشرات من المدربين واللاعبين الذين أثروا الملاعب الخليجية، والمئات من المدرسين الشرفاء الذين ربوا الأجيال في مدارس وجامعات دول الخليج العربية.

شكر وتقدير

في 12 نوفمبر 2023 قال سمو الشيخ مكتوم بن محمد بن راشد آل مكتوم، النائب الأول لحاكم دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير المالية، عبر منصة إكس، إن دبي لا تنسى المخلصين، مشيراً بذلك إلى شخصية سودانية سخرت خبراتها لإنجاز العديد من مشاريع البنية التحتية والعمرانية في إمارة دبي. ومما قاله سموه: «نستذكر اليوم جهود كمال حمزة وإخلاصه، ونشكر تفانيه في بناء نهضة دبي، لأن دبي لا تنسى المخلصين»، فمن هو كمال حمزة هذا؟ وما علاقته بدبي والإمارات؟

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات والروابط الإماراتية ــ السودانية تميزت بفرادة وخصوصية نجد تجلياتها في مسارعة السودان بالاعتراف بدولة الإمارات فور قيامها في 2 ديسمبر عام 1971م، واختيار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، السودان لتكون أول دولة يزورها رسمياً بعد شهرين ونصف من توليه رئاسة الإمارات، وذلك في 20 فبراير 1972، وهي الزيارة التي رد عليها الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بزيارة مماثلة في 23 أبريل من السنة ذاتها، فكان الأخير أول رئيس دولة عربية (من خارج منطقة الخليج) يزور الإمارات بعد استقلالها.

ومن شواهد محبة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، للسودان والسودانيين قراره بأن تستثمر دولته الفتية في السودان في وقت مبكر من عمرها، وتحديداً في عام 1975 حينما تأسست أول شركة إماراتية ــ سودانية للاستثمار حملت اسم «شركة الإمارات والسودان للاستثمار»، علماً بأن الاستثمارات والتمويلات التنموية الإماراتية في السودان استمرت بعد ذلك حتى بلغ حجمها أكثر من 30 مليار درهم.

وقد رافق هذا، من قبل ومن بعد، استقطاب الإمارات كوادر سودانية متنوعة التخصصات للعمل في مرافقها الحيوية، كالبلديات وأقسام المساحة والتخطيط ودوائر الزراعة وبعض إدارات الشرطة، بهدف بناء دولة عصرية تضاهي دول العالم. أحد هؤلاء الذين استقطبتهم الإمارات كان كمال حمزة، الذي تولى إدارة بلدية دبي في حقبة بدايات التنمية والتحديث، وتحديداً في الفترة من عام 1961 وحتى عام 1985، لينتقل بعدها للعمل مستشاراً لحكومة دبي حتى تقاعده في عام 1992.

وبلدية دبي، التي تعد اليوم من أكبر المؤسسات الحكومية في دولة الإمارات، والجهاز المحرك لنمو وتطور إمارة دبي في مختلف النواحي والأنشطة والأعمال، والكيان الذي تمكن عبر سنوات عمره من التوسع والنمو لجهة مهامها ومسؤولياتها وهيكلها التنظيمي والإداري حتى غدت مسؤولة عن 40 إدارة ونحو مئتي قسم و11 ألف موظف وعامل، تشكل نواتها في عام 1954 بكادر فني لم يتجاوز سبعة موظفين، وفي 28 فبراير 1957 صدر مرسوم من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، بتأسيس المجلس البلدي لإمارة دبي، وقرارات بتعيين 23 شخصية من أعيان الإمارة وتجارها ووجهائها أعضاء في المجلس بصلاحيات ومهام محدودة، شملت مهام الحفاظ على جمالية ونظافة مدينة دبي ورعاية شؤونها الصحية والعمرانية والتخطيطية وتقديم المقترحات ذات الصلة.

وفي عام 1961 أصدر المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، أمراً محلياً بتأسيس مجلس بلدية دبي، الذي أخذ على عاتقه تنفيذ مراحل تطويرية وتنموية متقدمة نسبياً.

أما العام 1980 فقد شهد صدور مرسوم بزيادة أعضاء المجلس البلدي إلى 32 عضواً.

ومنذ تأسيسها، توالى على إدارة بلدية دبي عدد من الشخصيات، كان أولاها عبدالله بن جمعان، الذي تقلد منصب سكرتير عام البلدية ما بين عامي 1954 و1957، وخلفه علي البستاني، الذي كان يشغل من قبل منصب مساعد الوكيل العربي المعتمد للحكومة البريطانية في دبي، فظل ممسكاً بالمنصب من عام 1957 وحتى عام 1961، وهو العام الذي أمر فيه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، بتغيير مسمى هذه الوظيفة من «سكرتير عام البلدية» إلى «مدير عام البلدية»، ليشغلها بتسميتها الجديدة مذاك وحتى عام 1985 كمال حمزة.

سيرة ومسيرة

ولد كمال حمزة حسن أبو المعالي في جزيرة «توتي»، التي تقع عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، وتتوسط المدن الثلاث المكونة للعاصمة الخرطوم (أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري)، وأنهى تعليمه النظامي الأولي والمتوسط بمدرسة «بيت المال» في أم درمان، وتعليمه الثانوي بمدرسة «خور طقت» العليا القومية الراقية بمدينة الأبيض، التي تأسست في زمن الإدارة المصرية ــ البريطانية المشتركة للسودان.

بعد إنهائه المرحلة الثانوية التحق حمزة بمعهد المعلمين في «بخت الرضا» (الواقعة ببلدة الدويم)، الذي كان يعد صرحاً تربوياً عالياً لتخريج وتدريب وإعداد المناهج والمدرسين لكل مراحل التعليم، قبل أن يتم تحويلها إلى «جامعة بخت الرضا» في عام 1997. بعد تخرجه في معهد المعلمين وعمله لبعض الوقت في سلك التدريس، قرر صاحبنا أن يلتحق بكلية العلوم الإدارية في جامعة الخرطوم، وما إن حصل على درجة البكالوريوس حتى غادر السودان إلى بريطانيا، حيث التحق هناك بجامعة مانشستر، التي منحته شهادة الماجستير في الإدارة العامة، ليعود إلى وطنه ويعمل لعدة سنوات ضابطاً إدارياً بوزارة الحكم المحلي.

المنعطف الأبرز في حياته كان في مطلع الستينيات حينما تم انتدابه للعمل في إمارة دبي. والحقيقة أن ذلك الانتداب لم يأتِ من فراغ، وإنما جاء من منطلق رغبة حكومة دبي في تأسيس بلديتها الوليدة على أحدث النظم الإدارية، معطوفاً على حقيقة أن أفضل نظام للخدمة المدنية أسسه الإنجليز قبل خروجهم من البلاد العربية كان ذلك الذي تركوه في السودان، وكان كمال حمزة أحد مخرجاته.

تفانٍ وإخلاص

أمضى كمال حمزة في دبي سنوات طويلة من عمره، قضاها في تنفيذ المطلوب منه بدقة وحماس وتفانٍ وإخلاص وفق رؤية حاكمها وباني نهضتها المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، مستثمراً في عمله كل طاقته وعلمه وخبرته من أجل أن يحقق نجاحاً تذكره الأجيال ويلتقي في الوقت نفسه بطموحات ورؤى الحاكم السديدة والسابقة لعصرها وأوانها، لقد أراد الرجل النجاح والتميز، وأراد له المولى عز وجل أن ينجح ويحقق ما لم يحققه أسلافه في إدارة بلدية دبي، وساهم في وضع اللبنات الأولى لإمارة عصرية حديثة، وهو ما قربه من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، وجعله موضع ثقته وتقديره؛ بدليل أنه كان يأخذه معه في جولاته الداخلية والخارجية، ناهيك عن منحه كل الصلاحيات التي أسهمت في أخذ مدينة دبي نحو القمة بخطوات واثقة وثابتة؛ لأن كل ما نفذه كان يجد القبول والإشادة عند المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه.

وإبان إدارته التنفيذية لبلدية دبي، أتيحت له فرصة الابتعاث على نفقة حكومة دبي إلى الخارج لرؤية عمل البلديات هناك والاستفادة من تجاربها وتطبيق ما هو مناسب لدبي، فزار وتفقد أعمال بلديتي ساوثهامتون ونيوكاسل بإنجلترا، وبلديات لوس أنجلوس ودينفر ونيوأورليانز في الولايات المتحدة، كما أن إنجازاته في دبي استرعت انتباه حكام وقادة الإمارات الكرام، فحظي بمحبتهم وتقديرهم، فكان مثلاً من ضمن أكثر الخبراء العرب مكانة لدى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وهو من ساعد كثيراً في اختيار وجلب أفضل الكفاءات السودانية للعمل بدولة الإمارات في مختلف الوظائف.

من الأمور التي ارتبطت باسمه، بوصفه مديراً لبلدية دبي، تغيير نظام السير في مدينة دبي من اليسار إلى اليمين ابتداءً من الأول من سبتمبر 1966، وإشرافه على العملية بمساعدة الجهات الأخرى المختصة حتى تحققت بنجاح ومن دون حوادث تذكر، وهو ما جعل حكومة وطنه الأم تستعين بخبرته في عام 1973 من أجل عمل مشابه في الخرطوم.

من جانب آخر أولى الرجل اهتماماً كبيراً، إبان عمله في دبي، بمواطنيه المغتربين في الإمارات، فكان يساعدهم ويتفقد أحوالهم ويذلل العقبات التي تعترضهم من موقعه رئيساً للجالية السودانية بدولة الإمارات.

في عام 1992، تقاعد عن عمله البلدي، لكنه ظل مقيماً في دولة الإمارات معززاً مكرماً بعد حصوله على جنسيتها ومنحه منزلاً أنيقاً تقديراً لخدماته الجليلة وإسهاماته المشهودة.

وأخيراً، فإن كمال حمزة لم ينسَ مسقط رأسه «جزيرة توتي»، ولا وطنه السودان، فبنى في الأولى مدرسة كبرى تحمل اسمه، وبنى في أم درمان «مدرسة أم درمان الأهلية»، وبنى في عطبرة «مدرسة الشيخ حمد ود أم مريوم» الثانوية للبنات، وشيد في الخرطوم «برج حمزة بلازا»، و«مستشفى الوالدين الخيري لطب العيون»، وأسس العديد من المساجد ودور تحفيظ القرآن، ومراكز غسيل الكلى، وحفر آبار مياه الشرب في مختلف المدن السودانية. أما خارج السودان فاشتملت أعماله الخيرية على بناء مسجد ومدرسة للأيتام في بنغلاديش، و«مدرسة حمزة لتحفيظ القرآن» في دبي، ومطبعة إسلامية في إريتريا.

Email